في الوقت الذي تصف فيه تقارير المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة الحرب على اليمن بأنَّها "أسوأ كارثةٍ إنسانية في العالم"، وتشير إلى أنَّ الحصار المتقطع الذي يفرضه السعوديون وحلفاؤهم في الإمارات دفع نحو 12 مليون شخصٍ في اليمن إلى حافة المجاعة، وأدى إلى قتل نحو 85 ألف طفلٍ، كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تقريرٍ لها فاجعةً أخرى في تلك الحرب، وهي تجنيد السعودية لأعدادٍ كبيرة من الأطفال السودانيين من إقليم دارفور للقتال على الخطوط الأمامية في اليمن.

تشير الصحيفة إلى أنَّ السعودية استغلت حاجة أسر الإقليم للمال بعد أن أصبحت معدمةً نتيجة سنوات الحرب الأهلية الطويلة. وتوضح ذلك من خلال مقابلةٍ أجرتها مجموعةٍ من الجنود السودانيين ممن قاتلوا في اليمن.

أحد هؤلاء الجنود يُدعَى هاجر شومو أحمد. سافر هاجر للقتال في اليمن لحاجة أسرته الشديدة للمال بعد أن سُرقت ماشيتها وأفقرتها الحرب. ففي نهاية عام 2016، علم أنَّ السعودية على استعدادٍ لدفع ما يصل إلى 10 آلاف دولار إن سافر للانضمام إلى قواتها في اليمن، على بعد 1200 ميل من وطنه.

كان هاجر يبلغ حينها من العمر 14 عامًا، ولم يكن يعلم موقع اليمن. وشعرت أمه بالفزع الشديد من الفكرة، فكيف يمكن لوالديه أن يلقيا به في حربٍ مروعة بعد أن نجا من واحدةٍ بالفعل؟ لكنَّ العائلة كان لها رأيٌ آخر. والسبب، حسبما أوضح هاجر في مقابلةٍ الأسبوع الماضي في الخرطوم مع صحيفة نيويورك تايمز، بعد أيامٍ من بلوغه سن السادسة عشر، هو أنَّ "العائلات تعلم أنَّ الطريقة الوحيدة لتتغير حيواتها هو أن ينضم أبناؤها للحرب ويرسلون إليها المال".

يزعم السعوديون إنَّهم يقاتلون في حرب اليمن التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان لإنقاذ اليمن من الحوثيين المدعومين من إيران. لكن تشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنَّ السعوديين لجأوا في الحرب إلى استغلال ثروتهم الواسعة من عائدات النفط للاستعانة بجنودٍ من خارج السعودية للقتال، واعتمدت في هذا بالأساس على تجنيد ما يقول الجنود السودانيون الذين أجرت الصحيفة مقابلاتٍ معهم أنَّهم آلافٌ من الناجين البائسين من الصراع في دارفور، ومعظمهم من الأطفال.

ووفقًا لعددٍ من هؤلاء الجنود السودانيين الذين عادوا إلى بلادهم، ومشرعين سودانيين يحاولون التحقيق في المسألة، فإنَّ عدد الجنود السودانيين الذين كانوا يشاركون في حرب اليمن طوال السنوات الأربعة الماضية بجانب الميليشيات المحلية الموالية للسعودية كان يصل إلى حوالي 14 ألف جندي سوداني. وقُتِل مئاتٌ على الأقل من هؤلاء الأطفال.

وبحسب الصحيفة، تقريبًا كل هؤلاء المجندين السودانيين أتوا من إقليم دارفور الذي أفقرته الحرب الأهلية وأنهكته. جديرٌ بالذكر أنَّ تلك الحرب استمرت لنحو 12 سنة، وأدت إلى مقتل 300 ألف شخص ونزوح نحو 1.2 مليون، بسبب الصراع على الموارد النادرة والأراضي القابلة للزراعة التي كانت تتناقص مساحتها مع الوقت.

توضح الصحيفة أيضًا أنَّ معظم هؤلاء الجنود السودانيين ينتمون لقوات الدعم السريع غير النظامية، وهي ميليشيا قبلية سودانية كانت تُعرف سابقًا باسم "الجنجويد". هذه القوات اتُهمت بالاغتصاب الممنهج للنساء والفتيات والقتل العشوائي وغيرها من جرائم الحرب خلال صراع دارفور، والآن يقود الجنود المخضرمون الذين شاركوا في هذه الفظائع الجنود السودانيين المنتشرين في اليمن، لكن هذه المرة في حملةٍ عسكرية نظامية.

ووفقًا لتقرير الصحيفة، بعض عائلات هؤلاء المجندين يقدمون الرشاوى لقادة الميليشيات لتجنيد أبنائهم، الذين يبلغ معظمهم ما بين 14 إلى 17 عامًا. وفي مقابلاتهم مع نيويورك تايمز، قال خمسة جنود عادوا إلى بلادهم وجندي آخر على وشك السفر إلى هناك إنَّ الأطفال يشكلون على الأقل 20% من وحداتهم. وقال اثنان إنَّ الأطفال يشكلون ما يصل إلى 40%.

وأوضح هؤلاء الجنود جميعًا أنَّ القادة السعوديين والإماراتيين المشرفين عليهم يتحكمون بهم من مسافاتٍ بعيدة للبقاء آمنين بعيدًا عن الخطوط الأمامية، ويوجهونهم للهجوم أو الانسحاب من خلال السماعات اللاسلكية وأنظمة تحديد المواقع التي وفروها للضباط السودانيين المسؤولين عن الوحدات.

وصرَّح للصحيفة محمد سليمان الفاضل، وهو عضوٌ بقبيلة "بني حسين" عاد إلى السودان في نهاية العام الماضي: "يبلغنا السعوديون بالأوامر عبر الهواتف والأجهزة. لكنَّهم لم يقاتلوا معنا أبدًا".

واتفق معه أحمد (25 عامًا)، وهو عضوٌ من قبيلة أولاد زيد قاتل بالقرب من ميناء الحديدة هذا العام، ولم يُرد نشر اسمه كاملًا خوفًا من الحكومة السودانية. قال أحمد للصحيفة: "يهاتفنا السعوديون ثم ينسحبون. إنَّهم يعاملون السودانيين كما لو كانوا حطبًا يشعلون به النار".

وتوضح الصحيفة أنَّ هناك بالفعل بضع آلافٍ من القوات الإماراتية متمركزةٌ حول ميناء عدن. لكنَّ بقية جنود التحالف الذي كوَّنه السعوديون والإماراتيون لا يجمعهم سوى الاعتماد على المساعدات الخارجية. إذ شارك الجيش الباكستاني بإرسال 1000 جندي لدعم القوات السعودية داخل المملكة، رغم معارضة البرلمان الباكستاني وتصويته لمنع الأمر، وأمدت الأردن التحالف بطائراتٍ حربية ومستشارين عسكريين، لكنَّ الدولتين أقدمتا على ذلك لاعتمادهما الكبير على مساعدات ممالك الخليج. (وأشار تقريرٌ من الأمم المتحدة إلى أنَّ إريتريا ربما تكون قد أرسلت 400 جندي).

لكنَّ الأمر يختلف في السودان بحسب التقرير، فالمال السعودي يذهب مباشرةً للمقاتلين، أو المرتزقة كما يسميهم النقاد، ولا يستفيد منه الاقتصاد السوداني إلا بصورةٍ غير مباشرة.

وصَّرح للصحيفة حافظ إسماعيل محمد، المصرفي السوداني السابق والمستشار الاقتصادي الناقد للحكومة: "الناس هنا يشعرون باليأس. وهم يقاتلون في اليمن لأنَّهم يعلمون أنَّهم ليس لديهم مستقبل في السودان. نحن نُصدِّر الجنود للقتال في اليمن كما لو كانوا سلعةً نقايضها مقابل العملات الأجنبية".

لكنَّ تركي المالكي، المتحدث باسم التحالف العسكري الذي تقوده السعودية، نفى تلك الاتهامات في بيان، وقال إنَّ التحالف يقاتل لإعادة حكومة هادي إلى الحكم، وأنَّ قوات التحالف تلتزم بجميع قوانين حقوق الإنسان العالمية، ومن ضمنها "الامتناع عن تجنيد الأطفال".

وأضاف المالكي: "هذه المزاعم بوجود أطفال ضمن القوات السودانية المشاركة خيالية وليس لها أساس". وجديرٌ بالذكر أنَّ المسؤولين السعوديين قالوا إنَّ هناك جنودًا سعوديين ماتوا في اليمن، لكنَّهم رفضوا توضيح أعدادهم.

تشير "نيويورك تايمز" إلى أنَّ هذه القوات السودانية البرية بالتأكيد ساعدت السعوديين والإماراتيين في الاستمرار في حرب اليمن، فلولاهم لكان السعوديون والإماراتيون قد تكبدوا خسائر كبيرة من شأنها أن تمتحن صبر عائلات جنودهم في الوطن.

وبينما يُنشر الجنود السودانيون لدعم الميليشيات اليمنية التي تقود الهجمات، إلا أنَّ الجنود الذين قابلتهم الصحيفة يؤكدون أنَّهم أيضًا العائق الأساسي أمام تمدُّد الحوثيين. وقال فاضل: "لولانا لكان الحوثيون قد استولوا على السعودية كاملةً، حتى مكة".

وتواصلت الصحيفة أيضًا مع السفير السوداني بابكر الصديق الأمين، المتحدث باسم وزارة الخارجية السودانية. امتنع الوزير عن التعليق على أعداد القوات أو الضحايا أو المرتبات التي يتلقاها من يقاتلون في اليمن. وقال إنَّ السودان يقاتل "لتحقيق الاستقرار والسلام الإقليميين. فيما عدا ذلك ليست لدينا أي مصالح في اليمن".

ووفقًا لتقرير نيويورك تايمز، هدَّد وزير الدفاع السوداني في مايو (أيار) الماضي بالانسحاب من حرب اليمن، معلنًا أنَّ الخرطوم "تُقيِّم" مشاركتها في الحرب في ضوء "استقرار ومصالح" السودان. وأشار دبلوماسيون إلى أنَّ الغرض الحقيقي لهذا البيان كان مطالبة السعودية والإمارات بتقديم مساعداتٍ مالية أكبر. إلا أنَّ الدولتين الخليجيتين لم تفعلا، واستمرت اضطرابات الاقتصاد السوداني. وبعدها تراجعت الخرطوم، واستمرت في إمداد اليمن بالمقاتلين بحسب الصحيفة.

لكنَّ مشاركة السودان كانت لها فائدةٌ كبرى أخرى. إذ توضح الصحيفة أنَّها أكسبت الرئيس السوداني عمر البشير حلفاء جدد، وخففت من عزلته الدولية المستمرة منذ سنوات. فلأكثر من عقدين كانت الولايات المتحدة تعتبر حكومة البشير من ممولي الإرهاب، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية بحقه مذكرات اعتقال عديدة، متهمةً إياه بإدارة جرائم حرب دارفور.

وحتى وقتٍ قريب، كان السعوديون والإماراتيون ينأون بأنفسهم عن البشير، لشكهم في وجود جذورٍ تربطه بالإسلام السياسي، وعلاقاته بإيران وقطر، خصما السعودية اللدودان. لكنَّ حرب اليمن وفرت للبشير الدعم الدبلوماسي الخليجي، وأعرب عن امتنانه لضغط السعوديين والإماراتيين على واشنطن لتحسين علاقاتها مع السودان.

وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردي في السودان، حيث وصل معدل التضخم إلى 70%، ويصطف الناس للحصول على الخبز والوقود وسحب الأموال حتى في العاصمة، وحيثُ قتل تسعة أشخاص هذا الشهر على يد قوات الأمن في احتجاجاتٍ ضد الحكومة، أصبحت هذه المدفوعات السعودية التي تصل إلى الجنود ذات أهميةٍ كبرى بحسب الصحيفة.

وتوضح الصحيفة أنَّ الأمر لا يقتصر على حرب اليمن فقط، فوفقًا لتقرير لجنٍة تابعة للأمم المتحدة وتقارير أخرى، بعض الجماعات المتمردة التي واجهت قوات الجنجويد في السودان شاركت في المعركة في ليبيا بجانب قوات اللواء خليفة حفتر المعارض للإسلاميين.

إلا أنَّ أعداد السودانيين المشاركين في حرب اليمن أكبر بكثير. فوفقًا لمقابلات صحيفة "نيويورك تايمز" مع الجنود الخمسة الذين عادوا من اليمن، ومقابلاتٍ أخرى أجرتها مع أخي مقاتلين ماتا في الحرب، كانت الطائرات السودانية ترحل من الخرطوم أو نيالا في دارفور إلى السعودية وهي تحمل ألفين أو ثلاثة آلاف جندي كل مرة. وكان هؤلاء يصلون إلى معسكراتٍ بالمملكة، قال البعض إنَّهم رأوا فيها ما يصل إلى 8 آلاف جندي سوداني.

وبحسب روايات الجنود، وفَّر لهم السعوديون الملابس والأسلحة، التي يعتقدون أنَّها أمريكية الصنع، ودرَّبوهم من أسبوعين لأربعة أسابيع بالأساس على كيفية فك وتركيب وتنظيف الأسلحة. ثم قسَّموهم إلى وحداتٍ تتكون من 500 إلى 750 جنديًا، وسافروا برًا إلى اليمن للمشاركة في المعارك في صحراء ميدي، أو معسكر خالد بن الوليد في تعز، أو بالقرب من عدن وميناء الحديدة.

وقال جميعهم للصحيفة إنَّهم قاتلوا فقط من أجل المال، وكانوا يتلقون مرتباتهم بالريال السعودي، ما يعادل 480 دولارًا أمريكيًا شهريًا للمقاتل عديم الخبرة البالغ من العمر 14 عامًا، و530 دولارًا امريكيًا شهريًا للضابط المخضرم من قوات الجنجويد. وكانوا يتلقون من 185 إلى 285 دولارًا إضافيةً عن كل شهرٍ يشاركون فيه في المعارك، وبعضهم كان يشارك فيها باستمرار.

ووفقًا للصحيفة، تُودَع المدفوعات في بنك فيصل الإسلامي في السودان، الذي يملك السعوديون جزءًا منه. وفي نهاية كل ستة أشهر، كان المقاتل الواحد يتلقى مبلغًا إضافيًا قدره 700 ألف جنيه سوداني، أي ما يصل إلى 10 آلاف دولار أمريكي حسب سعر الصرف الحالي.

ومقارنةً بوظائف الأطباء في السودان، أوضح محمد المستشار الاقتصادي أنَّ الطبيب السوداني الذي يعمل في عدة وظائف يتلقى فقط ما يصل إلى 500 دولار أمريكي.

وهذا يدفع بعض العائلات لدفع الرشاوى للميليشيات لتجنيد أبنائهم. ففي مقابلةٍ أجرتها الصحيفة مع شخصٍ يدعى عبد الرحيم (32 عامًا) من قبيلة الرزيقات في السودان، قال عبد الرحيم إنَّ عائلته دفعت العام الماضي رشوةً مقدارها 1360 دولار أمريكي لقائد إحدى الميليشيات المحلية، حتى يسافر أخوه الأكبر عبد الرحمن للمشاركة ضابطًا في حرب اليمن. لكنَّ أخاه توفي في المعارك في فبراير (شباط) هذا العام. وعلَّق عبد الرحيم على وفاته بوجهٍ جامدٍ قائلًا: "هكذا هي الحياة".

وأوضح أنّ زوجة عبد الرحمن وأطفاله الثلاثة تلقوا مبلغًا بالجنيه السوداني يصل إلى 35 ألف دولار أمريكي، لكنَّهم لم يتمكنوا من سحبه حتى الآن بسبب قيودٍ مصرفية.

وفي مقابلته مع الصحيفة، أفاد أحمد، الشاب المنتمي لقبيلة أولاد زيد، بأنَّ بعض الضباط كانوا ينصحونهم أحيانًا بأن يقاتلوا "بقدر ما يحصلون عليه من مال".

وشكا جميع المقاتلين للصحيفة من صواريخ الحوثيين وألغامهم، وذكروا وقوع إصاباتٍ عديدة في وحداتهم، تتراوح من إصابة 135 جنديًا في وحدة فاضل إلى إصابة 200 جندي في وحدة أحمد. وأفاد هاجر بأنَّ وحدته خسرت 20 جنديًا خلال رحلتها البرية إلى معسكرٍ قرب عدن، وخسرت هناك نحو 22 جنديًا في المعركة الأولى، و35 في الثانية، ووصل عدد الضحايا خلال ستة أشهر إلى 180 شخصًا.

وتوضح الصحيفة في نهاية تقريرها كيف تغيرت حياة هؤلاء الجنود بفعل المشاركة في حرب اليمن. فبينما أعرب هاجر عن شعوره بالرعب كل يوم أثناء الحرب، وهو ما بدا من انتفاضته في كرسيه حين كان يتحدث مع الصحيفة عن المعارك، إلَّا أنَّه ذكر أنَّ الضباط كانوا يسمحون له أحيانًا بمهاتفة عائلته. وأضاف أنَّ أسرته الآن تشعر بالسعادة لأنَّه اشترى لها منزلًا و10 رؤوس ماشية. وكذلك أفاد بقية الجنود في مقابلاتهم مع الصحيفة، موضحين أنَّهم اشتروا ماشيةً وسيارات ومحلات بقالة. انتهى/خ.

اضف تعليق