تقرير: عصام علاوي

أعاد النزاع العشائري العنيف، الذي اندلع يوم الأحد الماضي (3 مارس 2024)، بين عشيرتي آل عمر والرميض في قضاء الإصلاح بمحافظة ذي قار، وأدى إلى مقتل مدير استخبارات محافظة ذي قار العميد عزيز شلال إثر محاولته فض النزاع بين العشيرتين، أعاد إلى الأذهان مسلسل النزاعات العشائرية الدامية. 

وتسبب النزاع الذي يندرج ضمن ما يسمى بـ"الدكة العشائرية" بإصابة 10 أشخاص معظمهم من القوات الأمنية واحتراق عدد من المنازل السكنية، فيما شنت الداخلية حملة اعتقالات لمثيري النزاع، وفرضت القوات الأمنية حظرا للتجوال خلت على إثره شوارع قضاء الإصلاح في اليوم التالي من السكان.

هلع وخوف خلق النزاع لدى سكان المنطقة، نتيجة كثافة المواجهات بين العشيرتين التي استخدمت فيها أسلحة خفيفة ومتوسطة لعدة ساعات، في مشهد يتكرر بين الحين والآخر في جنوب العراق، ويجري في أغلب الأحيان لأسباب صغيرة وبين عدد قليل من الأشخاص، ومن ثم يتطور ويتسع نطاقه ويتسبب بسقوط الكثير من الضحايا الأبرياء. 

والدكة العشائرية هي أن يقوم أفراد القبيلة بالهجوم على منزل أو مقر سكن الخصم من العشيرة الأخرى، مطلقين النار ومرددين هتافات تهدد بالوعيد والقتل، وتعطى مهلة 3 أيام للخصم، حتى يأتي ويحتكم لديهم ويذعن لشروطهم، أو أن يهجموا ويقتلوا في قضايا الأخذ بالثأر أو الشجارات والمنازعات المالية والاجتماعية المختلفة.

ونشطت "الدكات العشائرية" في العراق بعد عام 2003، وهي ظاهرة تعكس قوة نفوذ وسلطة العشائر، واللجوء إليها لفض النزاعات، بدلا من اللجوء إلى سلطة الدولة، ورغم مخالفتها للشريعة الإسلامية والأعراف والقوانين التي تجرمها، تستمر بشكل متزايد في حصد أرواح الأبرياء وترويع السكان.

حملة اعتقالات رد على مقتل ضابط كبير
وزارة الداخلية أطلقت حملة مداهمات واعتقالات في المنطقة، ووصلت تعزيزات عسكرية إلى محافظة ذي قار متوجهة نحو قضاء الإصلاح على خلفية تجدد النزاع العشائري.

وزير الداخلية عبد الأمير الشمري وجه بعد يوم من الحادثة، باستمرار عمليات فرض الأمن في قضاء الإصلاح بمحافظة ذي قار وزيادة نطاقها، والقبض على جميع المطلوبين للقضاء وضبط كل أنواع الأسلحة والتعامل بشدة وحزم في فرض الأمن هناك.

وبعد سقوط مدير استخبارات مكافحة الإرهاب في المحافظة خلال فض النزاع، أكدت الوزارة أن "من ارتكب هذا العمل الإرهابي الإجرامي لن يفلت من العقاب وسيكون تحت طائلة القانون، إذ إن قيادة شرطة ذي قار شرعت بعملية تفتيش واسعة ضمن محل الحادث، وطوقت المكان بالكامل لإلقاء القبض على طرفي النزاع لينالوا جزاءهم العادل".

وقال وزير الداخلية العراقي، عبدالأمير الشمري، السبت (9 آذار 2024)، خلال مؤتمر صحفي عقده في ذي قار، إنه تم تنفيذ عمليات أمنية واسعة ضمن قضاء الإصلاح، أسفرت عن القبض على 123 متهما ونقلهم والتحقيق في القضية إلى بغداد في المديرية العامة للاستخبارات ومكافحة الإرهاب، لافتا إلى مصادرة "عدد كبير من الأسلحة والأعتدة".

وبين أن التحقيقات التي أجريت توصلت إلى خيوط لمتابعة قتلة مدير استخبارات مكافحة إرهاب ذي قار، العميد (عزيز شلال)، مؤكدا أن الوزارة عازمة على القاء القبض على المجرمين والمتورطين في عملية القتل.

استخدمت السلطات العراقية الطائرات الحربية والمسيرة للسيطرة على النزاع والبحث عن مطلوبين هاربين في مناطق الأهوار، وتعرض الطيران الجوي لإطلاق نار أثناء تنفيذ عمليات الإنزال الجوي حصلت في مناطق قرى الرميد، وفق مصادر أمنية.

الدكة العشائرية في نظر القانون
وأصدر العراق (تشرين الثاني 2018) قانونا يعتبر "الدكة العشائرية" إحدى جرائم الترويع، ويقر التعامل معها عبر قانون مكافحة الإرهاب للحد من انتشارها في المجتمع، إلا أن ذلك لم ينه هذه الظاهرة.

وقال بيان لمجلس القضاء الأعلى في العراق: "إن جرائم التهديد عبر الدكة العشائرية تعد صورة من صور التهديد الإرهابي وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب في البلاد"، شارحا آثار ذلك، ومانحا قوات الأمن حق التحرك لاعتقال المتورطين في "الدكة" بحسب القانون.

وسبق لرئيس الحكومة محمد شياع السوداني، وأن أورد في منهاجه الوزاري، فقرة تخص السيطرة على السلاح المنفلت وحصره بيد الدولة، وهي الفقرة ذاتها التي وردت في البرامج الحكومية كافة لرؤساء الحكومات السابقة، لكن لم تنفذ، لا سابقا ولا حاليا.

في العراق ينتشر السلاح المنفلت بشكل كبير ويستخدم بشكل واسع في النزاعات العشائرية، ورغم تبني الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وإلى الآن في برامجها فقرات للحد من سطوة السلاح، إلا أن برامجها بقيت حبرًا على ورق، وحتى القوانين الصادرة في هذا المجال لم تتمكن من وضع حد نتيجة الضعف في تطبيقها، حيث تشهد أغلب مناطق الجنوب وبعض مناطق بغداد نزاعات عشائرية مستمرة، وبعضها يدوم لأيام وسط عجز الأجهزة الأمنية عن إيقافها.

تخلف وإرهاب
يقول القانوني سجاد الحسيني في حديث لوكالة النبأ، إن" الدكة العشائرية أخذت منحًا خطيرًا بعد أن شاعت بشكل غير مسبوق، إذ لم يعد هذا العمل مقتصرًا على إطلاق نار فقط بل وصل إلى استخدام أسلحة متوسطة كـ(الرمانات والقاذفات المضادة للدروع)، ما يتسبب بسقوط ضحايا جراء هذه الأعمال".

"كانت الدكات العشائرية تعد صورة من صور التهديد وحسننًا ما فعل مجلس القضاء الأعلى العراقي عندما اعتبر جرائم الدكات العشائرية صورة من صور الجرائم الإرهابية وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005، كون هذه الجرائم تهدد السلم المجتمعي والأهلي بل ويتعدى ذلك إلى تهديد أمن البلد ويمكن استغلال الخلافات العشائرية من قبل المجاميع الإرهابية وتجار الأسلحة لذلك صدرت أحكام مشددة تصل إلى السجن لمدة 15 سنة كما صدر من محكمة جنايات ميسان في العام الماضي"، وفق الحسيني.

ودعا الحسيني العشائر إلى وقفة جادة بالتعاون مع مؤسسات الدولة المختصة لوضع حد لهذه الظواهر السلبية التي تهدد أمن وسلامة المواطنين والعوائل الآمنة، مؤكدا أن هذا الفعل مناف للأعراف والعادات والتقاليد فضلا عن مخالفتها للشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.

رئيس عشائر بني طرف الشيخ عزيز الطرفي قال: إن "ظاهرة الدكة العشائرية عرف قديم تستخدمه بعض العشائر وله تأثير سلبي على المجتمع، وتكثر هذه الظاهرة في بغداد وبعض المحافظات الجنوبية"

.
وأضاف في حديث لوكالة النبأ، أن "الكثير من العشائر العراقية تنبذ هذه الظاهرة، وعقدت العديد من المؤتمرات في العديد من المحافظات، التي اعتبرت الدكة العشائرية ظاهرة خارجة عن القيم والأعراف، ويجب مغادرتها والاحتكام إلى القانون في حال وجود نزاع بين الأشخاص أو بين عشيرتين"، فيما أشاد بقرار مجلس القضاء الأعلى الذي اعتبر الدكة العشائرية نوع من الإرهاب وأن حصل التنازل عن القائم بهذا العمل الإجرامي لا يسقط عنه الحق العام ولا تقبل الكفالة وقد يحكم عليه لسنوات".

تفعيل القانون وفرضه من جانب ونبذ هذه الظاهر من قبل العشائر في مختلف محافظات العراق عوامل ممكن تلعب دورًا كبيرًا في القضاء على هذه الظاهرة، وفق الطرفي.

عدد النزاعات والمحسوم في ذي قار خلال عدة أشهر
يصعب الحصول على أرقام رسمية عن عدد الدكات العشائرية، لكن مدير قسم شؤون العشائر في محافظة ذي قار العقيد قاسم السعيدي ذكر في أيلول 2023، أن "القسم تمكن من حسم 122 نزاعًا عشائريًا بصورة نهائية منذ منتصف كانون الأول 2022 وحتى أيلول 2023"، لافتا إلى أن "النزاعات المحسومة تتعلق بحالات قتل وتجاوز على الأراضي الزراعية ونزاعات الملكية". 

وذكر السعدي حينها "لم يتبق لدينا سوى 10 نزاعات تقريبا وبعضها في طور الحسم خلال أسبوعين، وبعض النزاعات فيها إجراءات قضائية وقانونية وعند تبسيط تلك الإجراءات سيتم حسمها وتصفير كل النزاعات في المحافظة".

قد لا تعطي هذه الأرقام توضيحًا كاملًا لما يجري، لكنها تكشف حجم استفحال ظاهرة الدكات العشائرية، خصوصًا عندما تكون هذه الأرقام في محافظة واحدة فقط.

إطلاق حملات توعية ضد الدكات العشائرية
ويقول الصحفي علي الخفاجي في تصريح، إن هذه الظاهرة استفحلت مؤخرًا بشكل غير مسبوق، وأخذت تهدد السلم المجتمعي وكيان الدولة وقوتها بصورة عامة، وتعرض حياة المدنيين العزل للخطر، والإجراءات الحكومية حتى الآن لا توازي حجم المشكلة التي تحيط بالمجتمع.

تمس الحاجة في هذا الوقت إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ومسمياتها في التوعية من خطر استمرار الدكات العشائرية، وتسلط الضوء عليها، وعقد ندوات وورش تثقيفية في دواوين العشائر والأماكن العامة واستهداف طلبة الجامعات، كذلك في المساجد والحسينيات وعلى المنابر التي يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في توعية المجتمع ضد هذه الظاهرة، بحسب الخفاجي.
ع.ع

اضف تعليق