نشر "مركز بروكنجز" مقالًا بعنوان: "هكذا تصدر موريتانيا الدين إلى السعودية.. لا العكس"، ضمن سلسلةٍ من التحليلات التي تبحث في الجغرافيا السياسية للقوة الدينية الناعمة. كتب المقال مايكل فاركوهار، المحاضر في سياسات الشرق الأوسط بـ"كينجز كوليدج"، بالتعاون مع أليكس ثورستن، الأستاذ المساعد الزائر في جامعة ميامي.

في البداية، يشير المقال إلى أنَّ أهمية دراسة الحالة الموريتانية تتضح عند دراسة القوة الدينية الناعمة للسعودية. صحيحٌ أنَّ موريتانيا، التي لا يتجاوز تعدادها 4 ملايين نسمة، لا تملك "سوقًا دينية" كالذي تملكه السعودية في بلادٍ ذات كثافةٍ سكانية عالية مثل نيجيريا وإندونيسيا؛ إلا أنَّ ثقافة الدعوة الإسلامية المتأصلة في موريتانيا تجعلها شريكةً جذابة، وإن كانت تنقصها بعض المرونة.

وفقًا للمقال، بسبب ثقافة الدعوة هذه، استطاعت موريتانيا أن تشارك في تطور الدين في السعودية، لا أن تستقبل منها فقط. وهو الاستنتاج الذي يتفق مع تحليلاتٍ أخرى تدرس استيراد السعودية للتأثير الديني، وليس مجرد تصديره. يتحدى هذا الاستنتاج أيضًا تصوير السعودية على أنَّها القوة الإسلامية المسيطرة، التي قد تستطيع تشكيل إسلام الدول "الهامشية" كيفما تشاء النخبة في المملكة.

المشهد في نواكشوط

يشير المقال إلى تاريخ العلاقات الموريتانية السعودية، الذي يعود إلى ما قبل استقلالها عن فرنسا عام 1960، وهي الفترة التي زاد فيها الحج إلى مكة بسببين: أولهما كان اعتبار بعض المسلمين في غرب أفريقيا أنَّ الاستعمار الأوروبي حافز للهجرة الدينية، فسافروا إلى الحجاز؛ أما البعض الآخر فوجد أنَّ الحكم الاستعماري قد وفر طرقًا جديدة للتنقل، من التنقل على القدمين إلى السكك الحديدية والسفن والطائرات، وأنَّ بإمكانهم السفر عبر كل تلك الوسائل إلى مكة.

وبعد الاستقلال، كانت الدولة الصحراوية تملك دوافع قوية لترحب بالتعاون مع السعودية. وبينما كان جارها المغرب متردد في الاعتراف بها، وكان بعض المغاربة البارزين يدعون أنَّها جزء من المغرب الكبير؛ إلَّا أنَّها اعترفت بها عام 1969، خلال الاجتماع التأسيسي لمنظمة التعاون الإسلامي في الرباط. وكانت علاقة موريتانيا مع السعودية قد بدأت تؤتي ثمارها في ذلك الوقت، ونسب المختار ولد داداه، أول رئيس موريتاني، الفضل إلى الملك فيصل في المساعدة لإصلاح العلاقات بين المغرب وموريتانيا، واستمر الزعيمان في لقاءاتهما على مر السنوات حتى اغتيال الملك السعودي في 1975. وعندما زار الملك خمس دول أفريقية عام 1972، كانت موريتانيا من بينها.

بحسب المقال، صادفت الفترة التي بدأت فيها موريتانيا تأسيس دولتها المستقلة الفترة نفسها التي كانت تسعى فيها بعض المؤسسات السعودية لنشر تأثيرها الديني في الخارج. ويعود هذا السعي في جزءٍ منه إلى صراع السيطرة الإقليمية في بداية الستينيات، بين الملكية السعودية والأنظمة الجمهورية اليسارية مثل مصر الناصرية. وبدأت بعض الدول الأفريقية في التحول لمناطق مهمة لأعمال الدعوة الإسلامية السعودية، وأصبح هذا التأثير مع الوقت يظهر في دعم بناء المساجد والمشاريع الخيرية والشيوخ المستقلين والمدارس الدينية الإسلامية، عن طريق مؤسساتٍ على درجاتٍ مختلفة في قربها من الدولة السعودية، منها رابطة العالم الإسلامي، التي تأسست عام 1962، ووزارة الشؤون الإسلامية، ومؤسسة الحرمين الخيرية. ويضيف المقال أنَّ آثار هذه الفترة ما زالت تظهر في نواكشوط حتى اليوم، فمسجد المدينة الرئيسي يعرف بين العامة باسم المسجد السعودي، وبنت بعده السعودية مؤسسةً كاملة للدعوة السلفية الوهابية، لكنَّه أغلق في بداية الألفينيات ضمن حملةٍ شنها النظام على الإسلاميين.

وكانت جامعة المدينة الإسلامية إحدى أشهر المشاريع السعودية الدعوية التي حققت تقدمًا بارزًا في موريتانيا بحسب المقال. تأسست الجامعة عام 1961 في المدينة المنورة، لتوفر تدريبًا دينيًّا مدفوع التكاليف للطلاب غير السعوديين، على أمل أن يروجوا للثقافة الوهابية عند العودة إلى بلدانهم، أو في أي مكان. وحصل قرابة 400 موريتاني على منح من جامعة المدينة المنورة، وتخرج منهم حوالي 200 بدرجة تعليم جامعية. وبالنسبة إلى موريتانيا، فهذه الأرقام كبيرة جدًا، مقارنةً بأرقام قريبة منها في دول أخرى ذات أغلبية مسلمة، مثل إندونيسيا ومصر.

يستدرك المقال بتوضيح أنَّ هذا لم يعنِ أنَّ النفوذ السعودي قد غمر المجال الديني في موريتانيا. إذ بقيت المرجعية الدينية عند الكثير من الشيوخ هي نفسها النموذج الكلاسيكي لمرجعية دول شمال أفريقيا وغربها: الأشعرية في العقيدة، والمالكية في الفقه، والطرق الصوفية. كل هذه المذاهب، وخاصةً الأشعرية والصوفية، ينبذها السلفيون الوهابيون، وتعترض عليها الدولة السعودية رسميًّا. لكنَّ النموذج التقليدي استمر في هيمنته وسيطرته في أغلب المحاضر الإسلامية في موريتانيا (المحاضر في موريتانيا هي مجالس العلم). بل وسيطر الشيوخ من المدارس الكلاسيكية والمدارس الجديدة المتفرعة منها على مناصب وزراء الشؤون الإسلامية ومديري المؤسسات الدينية منذ ما بعد الاستعمار وحتى الآن.

يضيف المقال أنَّ الشيوخ الذين يميلون في آرائهم إلى المؤسسة الدينية السعودية يهتمون بإظهار استقلاليتهم. كان بداه ولد البصيري (عاش من 1920 حتى 2009) أحد أبناء جيلٍ مات أغلبه أو بلغه الكبر حاليًا، وتقاطع البصيري كثيرًا مع السلفيين في الفقه والعقيدة؛ إذ كان إمام المسجد السعودي، والمفتي شبه الرسمي لموريتانيا، وهي الوظيفة التي أصر ألا يتقاضى عليها أجرًا. وكان معلمًا لأجيالٍ مختلفةٍ من الإسلاميين والسلفيين، وكان له بالغ الأثر، وتمتع بعلاقةٍ طيبة مع الشيوخ السعوديين، وتحديدًا عبد العزيز بن باز، الشيخ البارز نصير الحكومة، والمفتي الأكبر لاحقًا، إلا أنَّه ظل مالكي المذهب، اسميًّا على الأقل، وبعض الأدلة تشير إلى أنَّه قد عاد إلى الصوفية في نهاية حياته.

ينتقل المقال إلى الجيل الأصغر، وكان فيه الشيخ محمد الحسن ولد الددو، المولود عام 1963، والذي يمثل حالةً أشد تعقيدًا. كان الددو حفيد أحد الشيوخ القدماء البارزين، ودرس في السعودية، ثم أصبح معارضًا علنيًّا للنظام الموريتاني بعد اعترافه بإسرائيل عام 1999. ونجح الددو خلال السنوات الماضية في كسر كل تصنيف ممكن له، سواء كان عقائديًّا أم سياسيًّا. فعلى المستوى العقائدي، أظهر الددو انفتاحه على الأشاعرة والصوفيين، حتى في الفضائيات الخليجية، وأظهر احترامه لمشايخ الطرق الصوفية علنًا داخل بلاده. وعلى المستوى السياسي، يسير الددو مع التيار السائد عند الإسلاميين في موريتانيا وخارجها، إلا أنَّه يتعاون مع الحكومة في بعض المناسبات، وأبرزها كان التحاور مع المحبوسين من الجهاديين والسلفيين المشتبه بهم منذ 2010. وبينما ما زال الددو يحمل ختم السعودية على شهادته وعمله، إلا أنَّه لا يمكن أن يعد دميةً سعودية على الإطلاق.

المشهد في الرياض

بعد عرض تناقضات التأثير الديني السعودي في موريتانيا والقيود التي واجهها، ينتقل المقال إلى الرياض، حيثُ الصورة أكثر تعقيدًا، خاصةً بالنظر إلى الطرق المقابلة التي أثرت بها موريتانيا في المجال الديني السعودي.

نتيجة التاريخ الطويل من هجرة الموريتانيين إلى الحجاز، حظي الموريتانيون بحضورٍ قوي في الدراسة والتدريس في مساجد هذه المنطقة، فأداروا المدارس والأوقاف، وأقاموا دروسًا في منازلهم. وعندما وقع الحجاز تحت حكم آل سعود في عشرينيات القرن الماضي، حاز الشيوخ الموريتانيون مناصبَ في المجالين الديني والتعليمي. وعُيِّنَ شيوخٌ من المهاجرين الموريتانيين، ومن بينهم محمد الأمين الشنقيطي، ومحمد المختار الشنقيطي، مدرسين في المعهد العلمي في الرياض، وهو المؤسسة المهمة التي تأسست في منتصف القرن العشرين لتكون جزءًا من جهود تنظيم وتوسعة آليات التعليم الديني، التي تسيطر عليها المؤسسة العلمية الوهابية. وارتفع نجم محمد الأمين لاحقًا ليصبح بين نخبة الشيوخ الوهابيين، وواحدًا من بين قلائل غير سعوديين ممن عُيِّنوا في هيئة كبار العلماء.

يضيف المقال أنَّه رغم هجرة هؤلاء من بلدٍ له تقاليد دينية شديدة الاختلاف، استطاع عديدٌ منهم الاندماج بهدوء داخل الوسط الوهابي. وبعضهم كان يقول إنَّه هاجر من بلاده من البداية بسبب الضلال المنتشر في المجتمع الموريتاني. وبالنسبة للآخرين، تشكلت تجاربهم بعد وصولهم إلى السعودية على الأرجح. فبينما كان محمد الأمين الشنقيطي يُعرف بشكوكه حول الوهابية قبل استقراره في الحجاز، وبحسب ما ورد عنه، كان ما قاده ليتبع مسارًا أقرب للوهابية هو تعرضه لنصوص المدرسة الحنبلية، وأعمال ابن القيم، وابن تيمية.

وبعدما حجزوا مساحتهم الخاصة في المجال الديني السعودي، انتقد بعض الموريتانيين التقاليد الدينية في بلدهم الأم. ويذكر المقال الشيخ محمد القلوي التيمي مثالًا على هذا. وُلِد الشيخ في موريتانيا عام 1904، وبعدما استقر في السعودية لاحقًا، لاقت عقيدته المدح من ابن باز لصحتها، وضمت كتاباته نقدًا لطريقة التيجانية الصوفية ذات الحضور القوي في موريتانيا. وكان المهاجرون من هؤلاء في أفضل موقعٍ ممكن ليمنحوا المصداقية والخبرة لمشروعٍ أكبر للدفاع عن العقيدة الوهابية ضد التقاليد الدينية خارج حدود المملكة.

لكنَّ اندماجهم في الوسط الوهابي لا يعني أنَّهم ذابوا فيه، بل قدموا مساهماتٍ فارقة، مثل كتاب التفسير "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، الذي ألفه محمد الأمين الشنقيطي وكان أحد التفاسير القليلة التي تلقى تأييد الشيوخ الوهابيين في العصر الحالي.

بل ساهم الموريتانيون أنفسهم في تطور المجال الديني في السعودية وفقًا للمقال. فقد وضعتهم المناصب التي نالوها في قلب الشبكات التي ساهمت في تشكيل السلفية الحديثة خارج المملكة. من هؤلاء الشيخ الموريتاني أحمد الجكني الإبراهيمي، الذي كان من المعلمين في الحرم في الخمسينيات، وكان من بين تلاميذه مقبل بن هادي الوادعي، وهو رائد السلفية الحديثة في اليمن. وأدى الموريتانيون أيضًا دورًا في تشكيل المؤسسات السعودية التابعة للدولة، والتي تهدف لنشر التأثير السلفي خارج المملكة. وكان محمد الأمين ومحمد المختار الشنقيطي من بين قلةٍ من الشيوخ الذين يعلمون في جامعة المدينة عند افتتاحها في الستينيات، وكان محمد الأمين من بين مجلس أمنائها، بل ألف أعمالًا فقهية استُخدمت في التدريس داخل الجامعة.

ويخلُص مركز "بروكنجز" إلى أنَّه بينما كان من الواضح سعي المؤسسات والجهات السعودية للتأثير الديني على موريتانيا، لكنَّ الحالة الموريتانية توضح القيود والتعقيدات التي واجهتها المحاولات السعودية. فالأمر لم يتوقف على الشيوخ الموريتانيين الذين تعاطفوا مع المؤسسة الوهابية بينما أبقوا على استقلالهم، بل امتد ليشارك الموريتانيون بأنفسهم في تطوير المجال الديني في السعودية، بل حتى مشاركة بعضهم في تشكيل المؤسسات نفسها التي تسعى للتأثير دينيًا على بلدانهم والبلدان الأخرى. انتهى/خ.

اضف تعليق