تنطلق أجهزة الاستخبارات دون استثناء من فرضية العمل في عالم متصارع وغير مستقر، وهي تعمل على إعداد أسلحتها لمواجهة أزمات الغد، ولذلك تجند خبراء الاستشراف للعمل على الخطوة التالية، لمعرفة ما هي الأزمات القادمة التي يتعين على البشر مواجهتها؟ وأين ستكون الجبهات الجديدة؟

ولتبين عمل هذه الأجهزة، انطلقت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية، في تحقيق مطول أعده جان غيسنيل، من أن الرئيس الأميركي جو بايدن وجد على مكتبه -مثل كل من سبقوه إلى البيت الأبيض- تقريرا كتبته المخابرات يوضح أن أزمة كوفيد-19 تسببت في "أكبر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية" كما أن الثورة الرقمية، وظهور الذكاء الاصطناعي والاحتباس الحراري، والارتفاع غير المتوقع في معدل المواليد، سيؤدي إلى تأجيج التوترات حول العالم.

فيل في مخزن الخزف

ورأى التحقيق أن الصين، التي تفاجأ الأميركيون بتزايد قوتها والتي ينظر إليها على أنها "الفيل في مخزن الخزف" تستعد أجهزة مخابراتها الآن للصراع الكبير مع الغرب، وتحاول وضع بيادقها في جميع أنحاء أميركا وأوروبا، في الوقت الذي تسعى فيه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) بكل جهد لنسج شبكتها فوق الأراضي الصينية الشاسعة المحمية بشكل أفضل مما كان عليه الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين.

أما الروس -كما يشير التحقيق- فقد أداروا الثورة الرقمية على أكمل وجه، معتمدين على جهاز الأمن الفدرالي الذي يعمل تحت إمرة رجل سري يعتمد على الرئيس فلاديمير بوتين وحده، وقد احتفظ هذا الجهاز ببعض أكثر الممارسات الراديكالية لسلفه السوفياتي "كي جي بي" (KGB) في حين أن جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد من المتوقع أن يحتفظ بالريادة في الشرق الأوسط، وإن كان هوسهربإيران يمنعه من امتلاك رؤية سياسية طويلة المدى.

في هذا المشهد، تستعد فرنسا للمستقبل -كما يقول التحقيق- معتمدة على "الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني" التي تخضع لسلطة رئيس الوزراء، وتشرف على صادرات الأسلحة وحماية تكنولوجيا المعلومات في البلاد واعتراض الهجمات الأمنية، ومسؤولوها مكلفون بإعداد البلد لأزمات الغد وما يمكن التنبؤ به، تساعدهم في ذلك أجهزة المخابرات.

ويقول ستيفان بويون، رئيس هذه الأمانة، إنهم لا يدعون القدرة على تخيل ما سيقع بعد 10 سنوات أو أكثر، ولكنهم يعملون على تصور أنواع مختلفة من السيناريوهات تتعلق بالهجمات الإلكترونية والاحتباس الحراري الخارج عن السيطرة والكوارث الطبيعية وأزمات الهجرة، وبالتالي فإن عملهم السري هذا يساعد في معرفة مقدار الصعوبات التي تحول دون مواجهة أزمات معينة، وإعداد فرنسا لاتخاذ إجراءات دبلوماسية أو عسكرية لتجنب هذا النوع من الأزمات.

ومثل الولايات المتحدة، يجعل المتنبئون الفرنسيون من الصين موضوع بحث دائم، ويفترض 95% من محلليهم أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يتمتع بقوة أكبر من قوة الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، ولا يمكنهم -حسب أحد خبرائهم- تخيل أنه يمكن أن يكون مجرد دمية يضعها الحزب الذي يحتاج إلى شخصية قوية بالواجهة، في حين أن الحقيقة أن قلب الحزب صندوق أسود، يجعلك ترى الإشارة ولا يمكنك تخيل السيناريو، وبالتالي إذا لم نجمع ذكاءنا، فسنقع في ما يسميه الأميركيون "فشل الخيال" وفق ما خلصت إليه الصحيفة الفرنسية.

وبحسب تحقيق لوبوان يتفق الجواسيس والدبلوماسيون والجنود والفنانون جميعا على أن مسألة التكنولوجيا ضرورية للخيارات الإستراتيجية لبلد مثل فرنسا، وبما أن عدد الهواتف المحمولة أكثر من البشر، فقد اتبع رئيس الدولة نصيحة الخبراء العسكريين والصناعيين، وأدخل فرنسا في برامج تكنولوجية هائلة للتجسس وشن الحروب المستقبلية، التهمت كل أموال البحث والتطوير.

أي سلاح وأي معركة؟

ومن أجل فهم ما يجري خارج الحدود، تحصل الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني على ميزانية تبلغ مئات الملايين من اليوروهات سنويا، لتتمكن من الحصول على الوسائل التقنية الأكثر كفاءة لاعتراض ومعالجة البيانات الضخمة. أما الجيوش فهي تستعد للحروب المستقبلية، بحيث يجب أن يكون نظام الدفاع الجوي الجديد جاهزا للعمل من عام 2040 حتى نهاية القرن، كما أن على الغواصات النووية المستقبلية الإبحار تحت الماء اعتبارا من عام 2036 لمدة 60 عاما وأكثر.

غير أن الصعوبة -كما تنقل لوبوان عن ضابط مسؤول بالقوات المسلحة- تكمن في صعوبة تحديد التسليح الجيد للمستقبل، إذ "يجب أن نتأكد من أن قرارات اليوم ستكون لها عواقب إيجابية، في وقت ليست لدينا فيه أي فكرة عن نوع وطبيعة الصراع عام 2060 أو 2070" وقد أعرب رئيس أركان القوات المسلحة، الجنرال تييري بوركارد، علنا، عن مخاوفه بشأن المستقبل "الذي يتسم قبل كل شيء بعدم يقين تعززه الاضطرابات الإستراتيجية الأخيرة".

وتساءل كاتب التحقيق: هل يجب أن تستمر فرنسا في حيازة أسلحة أكثر تطورا ولكنها باهظة الثمن قليلة العدد، أم أن عليها أن تتجه نحو وسائل أقل تكلفة وأكثر عددا، مثل الطائرات المسيرة التي تجهزت بها جيوش مثل جيش تركيا والتي استخدمتها على نطاق واسع وبنجاح في ليبيا وفي الصراع الأخير في ناغورني قره باغ؟

ونقل عن أحد الخبراء قوله إن الجيوش تشتكي من عدم قدرتها على ضرب الدفاعات الأرضية التي أصبحت فعالة للغاية في منع الطائرات المقاتلة من الاقتراب، مشيرا إلى أن الأتراك في قره باغ حلوا هذه المشكلة من خلال مهاجمة صواريخ أرض جو بطائرات مسيرة محلية فعالة ورخيصة.

ونبه هذا الخبير، القريب من أجهزة الاستخبارات، إلى الجهود والوتيرة الفائقة السرعة التي تتقدم بها الصين وتركيا، وقال إنها تبدو مثل روسيا فزاعات حقيقية، وخلص إلى أن "الجهات الفاعلة الأكثر عدوانية تبحث عن ضمان الاستمرارية بين أعلى وأسفل الطيف العسكري. والدروس المستفادة لبلدنا واضحة، وهي أنه يجب أن نكون قادرين على التدخل في جميع مناطق الصراع وعلى إتقان قواعد التصعيد".

اضف تعليق