يبدو الأمر محيرا للغاية لأول وهلة: فأسعار الأدوية الموصوفة تستمر في الارتفاع بوتيرة تنذر بالخطر، على الرغم من التهديد (أو الوعد) المتمثل في المنافسة من بدائل غير مسجلة وأرخص كثيرا. ولكن ليس هناك أي لغز في الأمر. ذلك أن شركات المستحضرات الصيدلانية والأدوية تدفع لأشخاص فاسدين في مختلف قطاعات نظام الرعاية الصحية لتفضيل أدويتهم الأكثر تكلفة على البدائل الأقل سعرا. ويبدو أن أولئك الذين ينبغي لهم أن يحموا مصالح المرضى راضون بمجاراة هذا الوضع.

والعواقب المترتبة على ذلك واضحة. لنتأمل هنا برنامج "ميديكير"، نظام التأمين الصحي الأميركي المخصص للأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما. حتى إذا وضعنا في الحسبان الخصومات، فإن الإنفاق من قِبَل المستفيدين من ميديكير على الأدوية التي تحمل علامات تجارية ارتفع بنحو 62% في الفترة من 2011 إلى 2015. وأغلب من تجاوزوا سن الخامسة والستين لم يحصلوا على زيادة في الراتب أو معاش التقاعد بنسبة 62% خلال نفس الفترة، وعلى هذا فإن هذا الارتفاع الحاد في الأسعار يتسبب في أذى حقيقي للناس. 

الواقع أن الطريقة التي يعمل بها نظام تسعير الأدوية على وجه التحديد مبهم من منظور عامة الناس في أميركا، ومن الواضح أن شركات الأدوية تود لو يبقى الأمر على هذه الحال. فالعقود التي تبرم بين شركات الأدوية ومسؤولين رئيسيين في نظام الرعاية الصحية أشبه بأسرار تخضع لحراسة مشددة، حتى أن الكيانات الحكومية وشركات التأمين الخاصة غير مصرح لها بالاطلاع على الشروط الكاملة لهذه العقود.

ومع ذلك، بدأت التفاصيل تتسرب ــ من خلال وثائق الدعاوى القضائية (بما في ذلك المنازعات على العقود)، ودراسات حكومية، وتقارير من مساهمين، ومطلعين من داخل الصناعة. ومن خلال تجميع المعلومات من هذه المصادر أثناء إجراء الأبحاث لصالح كتابي المقبل، حصلت على الصورة الكاملة لهياكل الحوافز الضارة في صناعة المستحضرات الصيدلانية والأدوية.

في قلب النظام، يقبع "مديرو مصالح الصيدليات"، الذين يمثلون خطط التأمين الصحي في التفاوض على أسعار الأدوية مع شركات الأدوية. ولأن شركات التأمين الصحي تدفع لمديري مصالح الصيدليات استنادا إلى الخصومات التي تحصل عليها، فمن المؤكد من الناحية النظرية أن هؤلاء الوسطاء يحاولون التفاوض على أقل أسعار ممكنة للأدوية لصالح عملائهم. ولكن في الممارسة العملية، تعرض شركات الأدوية الراسخة على مديري مصالح الشركات حوافز مالية لحملهم على تفضيل أدويتها الأعلى سعرا ومنع المنافسين الأرخص.

تشتمل هذه الحوافز غالبا على تخفيضات كبيرة في الأسعار على أساس الحجم، مع الاحتفاظ بأفضل العروض لمديري مصالح الصيدليات الذين يعدون بتفضيل كل أدوية شركة بعينها. وقد ظهر مثال واضح على ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2017، عندما دفعت شركة سانوفي لصناعة اللقاحات 61.5 مليون دولار لتسوية قضية كانت معلقة في محكمة فيدرالية في نيوجيرسي. زعمت الدعوى أنه عندما خططت شركة أخرى لمنافسة لقاح ميناكترا المضاد لالتهاب السحايا عند الأطفال، قررت شركة سانوفي رفع سعر اللقاح ميناكترا بنحو 34.5% ما لم يوافق المشترون على شراء جميع لقاحاتها بشكل قصري.

وتركز دعوى قضائية مماثلة رفعت في أواخر عام 2017 على عقار ريميكيد المضاد للالتهابات الذي تنتجه شركة جونسون & جونسون. تزعم الشكوى أن الشركة، فور انتهاء مدة حماية براءة اختراع الدواء، وبعد أسابيع فقط من نزول بديل مماثل بيولوجيا للدواء في الأسواق، بدأت تنفيذ خطة تجميع استحثت المستشفيات والخطط الصحية فعليا على استبعاد المنافس الأرخص. وأنكرت شركة جونسون & جونسون الادعاءات، لكن المحكمة رفضت طلبها بإسقاط الدعوى.

 ولكن لماذا تجاري شركات التأمين الصحي الأميركية كل هذا، على الرغم من ارتفاع التكاليف والافتقار إلى المنافسة بين شركات الأدوية؟ من منظور العديد من الخطط الصحية الأصغر، تكون مطالبة أحد مديري مصالح الصيدليات بشروط أفضل ممارسة معقدة للغاية ومستهلكة للوقت، إلى الحد الذي يجعلها غير مجدية اقتصاديا. من ناحية أخرى، تهتم شركات التأمين الخاصة الأكبر حجما بدخلها الصافي في المقام الأول، وربما تجد أن الخصومات المستندة إلى الحجم على العقاقير الراسخة أرخص من البدائل الأقل سعرا، في الأمد القريب على الأقل. وعندما تطالب شركة تأمين تتمتع بنفوذ كبير في السوق بشروط أفضل، يعرض عليها مديرو مصالح الصيدليات الآن عقود "حماية الأسعار" التي تَعِد بالحد من زيادات الأسعار بما لا يتجاوز 2% إلى 4% سنويا على سبيل المثال ــ دون دفع شركات الأدوية إلى تغيير استراتيجياتها المضادة للمنافسة.

 وحتى خطط التأمين الصحي التابعة للحكومة الأميركية قد تقع في فخ هذه الحوافز الاقتصادية الضارة. على سبيل المثال، إذا دفعت خطة تابعة لبرنامج ميديكير أحد المرضى إلى استخدام دواء أغلى ثمنا، فإن الحكومة تتحمل أغلب التكلفة، وتدفع الخطة جزءا أقل. وهذا من شأنه أن يدمر أي حافز لتشجيع المرضى على استخدام البدائل غير المسجلة أو العلامات التجارية الأرخص.

 لا تقتصر المشكلة على مديري مصالح الصيدليات وشركات التأمين الصحي. فقد تدفع شركات الأدوية أيضا للأطباء، والعيادات، والمستشفيات، وبرامج مساعدة المرضى، ومجموعات الدفاع عن مصالح المرضى، لحملهم على تفضيل أدويتها الأكثر تكلفة. وتأتي بعض المدفوعات في هيئة خصومات، في حين تصنف أخرى على أنها "رسوم إدارية" أو "رسوم مراقبة البيانات". وأيا كانت هيئتها، فإنها جميعها تمثل تدفقا مغريا من المال لعدد كبير من الفاعلين الذين ينبغي لهم أن يعملوا كهيئات مراقبة لصالح المرضى.

 الواقع أن تعطيل مثل هذا النظام المربح الراسخ يتطلب مجموعة من التغييرات. ويجب أن تشمل هذه التغييرات تقليص المدفوعات من قِبَل شركات الأدوية، والشفافية الكاملة (حتى يتسنى للمنافسة أن تزدهر)، والحد من حقوق المنافسة العديدة الممنوحة من الحكومة والتي تعزز قوة شركات الأدوية عبر مجموعة من الأدوية.

لكن الإرادة السياسية تشكل الجزء الأكثر أهمية من أي خطة للإصلاح. وفي غياب الإرادة السياسية، لن يتغير أي شيء في صناعة الأدوية. وسوف تستمر معاناة المرضى، ودافعي الضرائب، والموازنات الحكومية، والاقتصاد الأميركي.

ترجمة: إبراهيم محمد علي

اضف تعليق