استعرض "ستيفن والت"، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "هارفارد"، في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الشهيرة، قضية "تشابك الحضارات"، التي تناولها الكاتبان "كيشور محبوباني" و"لاري سامرز"، في مقال جاء تحت عنوان: "اندماج الحضارات"، والذي كان قد تم نشره للكاتبين في العدد الأخير من مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.

بداية قال المقال "إنه، وبدلًا من عالم الديمقراطيات المختلة والتطرف العنيف، والمؤسسات المتآكلة، وبداية التنافس بين الصين وأمريكا، فإن محبوباني وسامرز صورا العالم مكانًا فيه يتم ربط الحضارات المتباينة ـ بشكل متزايد ـ بالقيم المشتركة، وتقييدها بنظام دولي قائم على قواعد.

صراع الحضارات

وعلى النقيض من نظرية "صراع الحضارات"، التي طرحها الكاتب والفيلسوف "صموئيل هنتنغتون"، فإن الكاتبين يعتقدان أن الجماعات الثقافية تختلط بسرعة، وتخلق "مناطق من القواسم المشتركة".

فـ"الأوركسترا السيمفونية" الغربية تحظى بشعبية كبيرة في الصين، والنكهات الآسيوية تتسلل إلى المطابخ الغربية، والجامعات الأمريكية تفتتح فروعًا لها في الشرق الأوسط، وآسيا.

وأشار التقرير إلى ما ذكره الكاتبان من أن "العالم ليس على وشك الانهيار"، مضيفًا بأن كثيرًا من القراء ينظرون إلى مقال الكاتبين باعتباره تصحيحًا مرحبًا به للكآبة التي يبيعها السياسيون والنقاد ومسئولو المخابرات بشكل يومي.

وقال التقرير "إن العديد من الاتجاهات التي حددها مقال الكاتبين، مثل الانخفاض الأخير في معدلات الفقر العالمي، يجب أن تتم الإشارة إليها. وعلينا أن نأمل أن يكون القرن الـ21 حميدًا، كما يتوقعان".

وفي تحد لوجهة نظر "نصف الكوب الفارغ" في مجال الشئون العالمية المعاصرة، تأرجح محبوباني وسامرز بعيدًا، في الاتجاه المعاكس. كما حدد الكاتبان ـ بشكل صحيح ـ عددًا من الاتجاهات الإيجابية، ولكن لم يقدم مقالهما- بحسب التقرير – أية نظرية تفسر "لماذا سوف تدرء هذه التطورات المنافسة بين الدول؟" وبالفعل، فإن التطورات المختلفة التي أبرزاها لديها القليل لتفعله مع احتمالات السلام.

وتساءل التقرير بقوله "بالنسبة للمبتدئين، هل يجعل تصاعد الطبقة الوسطى الدول أقل عرضة للتنافس مع بعضها البعض؟"

وذكر بأنه سيكون من الجميل أن نعتقد ذلك، مشيرًا إلى وجود أسباب مختلفة تدعم صحة هذا الأمر.

غير أن التقرير استطرد بقوله "إن التاريخ هو في أحسن الأحوال غامض حول هذه النقطة، والجهود العلمية لاستكشاف الروابط بين عدم المساواة الاقتصادية، والصراع  بين الدول غير حاسمة".

الصراعات العالمية

يشير المقال أنه رغم نمو الطبقة الوسطى في أوروبا بشكل كبير بين عامي 1850 و 1914، على سبيل المثال، ولكن هذا التطور لم يمنع القارة من الانزلاق إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهما من أكثر الصراعات دموية في التاريخ المسجل.

ورأى التقرير أن اعتقاد محبوباني وسامرز في العقل البشري هو أكثر إثارة للحيرة؛ فبينما كان القرن الثامن عشر قد شهد عصر التنوير، فقد وقعت عشرات الحروب منذ ذلك الحين. وعلاوة على ذلك، فإن البلدان التي احتضنت قيم التنوير، مثل فرنسا الثورية، شاركت في العديد من تلك المعارك. إذا كان العقل البشري والتحليل الواقعي للتكاليف والفوائد حاجزًا أمام الحرب، فمن المؤكد أن القرنين الماضيين كان يمكن أن يكونا أكثر هدوءًا مما كانا عليه.

التقرير ألمح إلى أنه حتى الدول العقلانية يمكن أن تفشل في حل النزاعات بطريقة سلمية، كما أن الحرب يمكن أن تقع بين الدول؛ بسبب "معضلة الالتزام"، فليست هناك سلطة مركزية تضمن أن تحافظ الدول على أية اتفاقات وقعتها.

وذكر التقرير أن الأحداث الأخيرة تعزز هذه النقطة؛ فالخرافات القديمة والثقافات المشتبكة، لم تؤد بالولايات المتحدة إلى الحرب في العراق في عام 2003؛ على العكس من ذلك، كان الأشخاص الذين صوروا وسوقوا تلك الحرب قد حصلوا على شهادات من أرقى الجامعات الأمريكية، وكانت دراستهم جيدة في مجالات "عقلانية ما بعد التنوير" و"التحليل الأساسي للتكاليف والفوائد".

ويلمح المقال إلى أن الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش"، الذي تلقى تعليمه في جامعة "هارفارد"، وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال، محاطًا بأشخاص حصلوا على شهادات مماثلة، ومع ذلك لم يزل هؤلاء الأشخاص يتخبطون في حرب وخيمة لا داعي لها. وقد اعترف "براغماتي" مثل الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" بالقيام بـ"أشياء غبية" وهو في منصبه، مؤكدًا على حدود العقل البشري في المجال السياسي.

وتابع التقرير بقوله إن محبوباني وسامرز يدركان أن المشكلة قد لا تزال تنشأ، قائلين "ان احتمال وجود عدوانية وعسكرية الصين لا يمكن استبعاده"، ومحذرين من أن "الديماغوجيين" قد يستغلون المخاوف الشعبية، حتى في العالم الصناعي المتقدم.

معضلة القومية

وأضاف التقرير، في استعراضه لمقال الكاتبين، أنه، وفي الوقت، الذي رفض فيه محبوباني وسامرز توقعات "هنتنغتون" القاتمة، بشأن الاشتباكات الحضارية، فإن حجتهما قد تبنت نفس القالب "الحضاري" المعيب، وتركيزه على الثقافة؛ باعتبارها المحرك الرئيسي للسلوك الدولي. وعزا التقرير ذلك إلى أنهما افترضا أن ينشأ الصراع ـ في المقام الأول ـ من الاختلافات الثقافية، إلا أنهما قد اعتقدا بأن "الانصهار والاندماج" بين الثقافات، سيزيل هذا المصدر من المتاعب، ويضمن مستقبلًا هادئًا.

ولكن التقرير ذكر أن الحضارات لم تكن الجهات الفاعلة، ولا تتخذ قرارات الحرب أو السلام. فحتى الآن، الجهات الفاعلة الرئيسة في السياسة العالمية هي الدول، والأيديولوجية السياسية الأكثر نفوذًا في العالم هي "القومية".

تشرح القومية لماذا لا تزال المؤسسات الدولية، مثل "الاتحاد الأوروبي" في ورطة؛ والسبب في كون "الصين" وجيرانها على خلاف ـ بشكل متزايد ـ بشأن قطع تبدو ضئيلة من الأراضي في البحار المفتوحة. وفي الصين، يبدو أن القومية والطبقة الوسطى في تصاعد في وقت واحد. قوة القومية وغيرها من أشكال الهوية المحلية تفسر المقاومة العنيدة والمريرة التي واجهتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط (وغيرها)، وهذا هو السبب الحقيقي في أن كانت أطروحة هنتنغتون الأصلية خاطئة. ومن المفارقات، فقد أظهرت بياناته أن الاشتباكات، داخل الحضارات، كانت، وستظل، أكثر شيوعًا من الصراعات بينهما، والغالبية العظمى من هذه الصراعات تنشأ، لا عن الاختلافات الثقافية، ولكن من مخاوف أمنية مطلعة.

وقال التقرير إنه "في عالم حيث لا تزال الدول هي الأطراف الفاعلة الرئيسة، والتي لا توجد فيها سلطة مركزية لحمايتهم أو منعهم من القتال، فإن الدول القوية تراقب بعضها البعض بعناية، وتفعل كل ما في وسعها؛ للحد من تعرضهم للضغوط الخارجية".

وأوضح التقرير أن هذا هو السبب في سعى الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لعرقلة تمديد النفوذ الغربي في المناطق التي تحظى باهتمام روسي، كما أن ذلك هو السبب في إثارة الصين مخاوف في جميع أنحاء آسيا، واتجاه الولايات المتحدة إلى إعادة التوازن في هذه المنطقة البالغة الأهمية.

مشاهد عالمية أخيرة

وعلاوة على ذلك، ووفقًا للمقال، لم تكن الأحداث التي شهدها الشهر الماضي، غير عينة للتحديات التي تواجه تلك الأطروحة بشكل أساسي؛ فبعد أسبوعين من نشر الكاتبين لمقالهما، تم تمرير قانون جديد؛ يقيد عمل المنظمات الأجنبية، وشركائها المحليين، من خلال مراقبة الشرطة، قبل بضعة أسابيع، من  قبل الحكومة الصينية؛ في خطوة تهدف للحد من التأثيرات العابرة للثقافات. كما تم تنفيذ تدابير مماثلة في روسيا ومصر وإسرائيل، وعدد من الدول الأخرى في السنوات الأخيرة.

وقبل بضعة أيام، دعا حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو حزب يميني متطرف بألمانيا، دعا لفرض حظر على بناء المآذن والنقاب في البلاد، فضلًا عن التحولات اليمينية في "النمسا، والمجر، وهولندا، وبولندا".

وأخيرًا، رجح المقال أنه يمكن مزج الثقافات، من خلال بعض الطرق – تمامًا كما تم في الماضي – ولكن الكثير من الناس لا يحبون ذلك كثيرًا. وأحد هؤلاء الناس قد يكون الرئيس الأمريكي المقبل!

اضف تعليق