استمرارا لما اعلنت عنه من ابتعاد عن الخطب السياسية تواصل المرجعية الدينية العليا ممثلة بإمام جمعتها في كربلاء المقدسة السيد احمد الصافي، تذكيرها لمن هم في السلطة بما أوصى به أمير المؤمنين عليه السلام ولاته على الأمصار ومنهم واليه على مصر؛ مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه.

فقط تطرق الصافي خلال الخطبة الثانية لصلاة الجمعة التي أقيمت بإمامته في الصحن الحسيني الشريف اليوم الجمعة، الى أهمية وصايا امير المؤمنين عليه السلام الى الأشتر ومن خلاله الى كل متصدي، باعتبار أنه عليه السلام خليفة رسول الله على المسلمين وأمورهم، وهو ما يسترعي ضرورة فهمهم لدقة كلامه عليه السلام.

وفي مورد تذكيره بمآلات امور الولاة، ذكّر الصافي بما قاله الإمام علي عليه السلام للأشتر بخصوص ذِكر الولاة وسيرهم وآثارهم الحسنة منها والقبيحة، وما جمعوه من حسنات او أموال، لأن نفع أموالهم المكتسبة بطرق غير مشروعة سيكون لغيرهم او في مورد دفع لنوائب الدهور مع حسرة أهليها عليها.

كما ذكر بعواقب إحسان من مضى من الولاة والحكام، وإن من حسنت سيرته وخفّت مؤونته وسخت نفسه على رعيته لم يضر به ذلك في ملكه او بدنه، والعكس صحيح في من ساءت سيرته واشتدت مؤونته، إذ أن ذلك لم ينفعه في ملكه وعزه، لذا فأهم ما يستوجب ان يراعيه الوالي هو جمع الخيرات والحسنات لا الأموال.

وفي كلام موجه لعامة الناس، طالب الصافي بأن لا يكون هم الفرد منهم جمع المال؛ وهذا- عدم جمع المال- يستحسن لكل فرد منهم وأكثر وأولى عند من يتصدى للمسؤولية السياسية، وهو ما دعا امير المؤمنين ان يوجه رسالته هذه لمالك بعد ان كلفّه على مصر وليس قبل ذلك، لأن الدواعي هنا أكثر، باعتباره متصدي لأمور الرعية وهذا ما يستلزم منه- الأشتر- رقابة ذاتية اكبر.

كما بيّن الصافي عدم بقاء من امور الولاة "الا الذكر" بعد ان خرج عما كان من تحت أيدهم، ولم تبقى لهم "الا سيرتهم والناس يذكرونهم بحسب آثارهم؛ فترى شخص يقول رحمه الله كان خيراً لنا، وناس تقول لا يرحمه الله كان شراً علينا، وبقيت الآثار شاخصة والسيرة شاخصة والناس تتكلم بهذه الآثار فترى الناس".

وتطرق الصافي الى ما يحاول الإنسان من اكتنازه من ثروات وجيش عندما لا يكون له رقيب وحسيب، فضلا عما يلحق بهذه الأموال من حسرة "لأن تكدسيها غالبا ما لا يأتي بموازين مقبولة، وقد يكون في ذلك تجاوز على حقوق الآخرين وأموالهم، فإذا ذهبت هذه، ستترك حسرة، فلا الذي أخذها انتفع بها ولا الذي بقيت عنده ! ولكلاهما سؤال حثيث من الملك الجبار يوم الحساب.

كما بيّن ميزان امير المؤمنين عليه السلام في معرفة عواقب الإحسان والإساءة وضياع العقول في ذلك، وهو ميزان النظر في سَير من مضى من الولاة، صالحهم وطالحهم، "وإن أحببت أن تعرف عواقب الإحسان والإساءة وضياع العقول في ذلك فانظر في أمور من مضى من صالح الولاة وشرارهم".

وفي تبيانه لمصارعة الهوى، تساءل الصافي فيما اذا كان ثمة حق للآخرين على الفرد منا، هل نستطيع منحهم إياه اذا كبر هذا الحق وكثر، فــ "اذا كان الف او مليون" يمكن رده ولكن من غير المعلوم رده من عدمه إذا "كان الحق مليار مثلا  "خصوصا اذا كان من يتزلف في مورد المنع "عن فعل الحق"!!.

كما توسل الصافي بوسيلة النمذجة، حيث اخذ بالحجاج مثالا طاغوتيا وما آلت اليه سوء عاقبته، وهو ما يؤكد أن "الدنيا دول وتدور، وعلى الإنسان ان يلتفت ويعتبر من طواغيت التاريخ".

وفيما يلي النص الكامل للخطبة...

إخوتي أخواتي... نبقى مع عهد امير المؤمنين (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الأشتر من جملة ما ذكر (عليه السلام):

(ليس يبقى من امور الولاة الاّ ذكرهم وليسوا يذكرون الا بسيرتهم وأثارهم حسنة كانت أم قبيحة، فأما الأموال فلا بد أن يؤتى عليها فيكون نفعها لغيره، أو لنائبة من نوائب الدهر تأتي عليها فتكون حسرة على أهلها، وإن أحببت أن تعرف عواقب الإحسان والإساءة وضياع العقول بين ذلك فانظر في أمور من مضى من صالح الولاة وشرارهم، فهل تجد منهم أحداً ممن حسنت في الناس سيرته، وخفّت عليهم مؤونته وسخت بإعطاء الحق نفسه أضر به ذلك في شدة ملكه، أو في لذّات بدنه، أو في حسن ذكره في الناس، أو هل تجد أحداً ممن ساءت في الناس سيرته واشتدت عليهم مؤونته كان له بذلك من العز في ملكه، مثل ما دخل عليه من النقــص به في دنياه وآخرته، فلا تنظر إلى ما تجمع من الأموال، ولكن انظر إلى ما تجمع من الخيرات، وتعمل من الحسنات).

أحب ان اعرض الى الإخوة الأكارم، ان في بعض الحالات، الكلام لعامة الناس يشمله هذا الكلام، الإنسان ألان لا يكون همّه ان يجمع المال ؛ يكن همه ان يجمع من الحسنات ومن الطاعات، هذا أمر حسن لكل احد لكن عندما يتصدى الإنسان لمسؤولية معينة قد تكون سياسية لاشك ان هذه الأمور ستكون فيه أشد وستكون في أولى، ولذلك الامام (عليه السلام) تكلم مع مالك عندما أرسله والياً لم يتكلم معه عندما كان معه في الكوفة مثلا ً، أراد ان ينبّه مالك الى أشياء مهمة تضر بولايته ان لم يلتفت وتقوي ولايته ان التفت.. وهذا الكلام قد يكون لكل احد.. لكن كونه والي يتصدى لأمور المسلمين لابد ان تكون رقابته لذاته أكثر وان يكون نصحائه أكثر.

ولذا إخواني هذا النص نص مهم وطريقة للتعامل مع أي متصدي عليه ان يلتفت الى ما يقوله امير المؤمنين (عليه السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ممن اجمع عليه المسلمون اما على نحو الوصي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) او كونه خليفة رابع وبالنتيجة هذا الكلام من شخص كان خليفة للمسلمين ووجه ولاته بكلمات لفلان وفلان من جملتهم مالك الأشتر.. فالكلام فيه دقة وعلى من يتصدى ان يفهم كيف يتعامل مع هذا النص.

قال (عليه السلام): (ليس يبقى من امور ليس يبقى من امور الولاة الاّ ذكرهم وليسوا يذكرون الا بسيرتهم وآثارهم حسنة كانت أم قبيحة...).

هذا واقع نعيشه، لم يبقى من امور الولاة الا الذكر، وخرج عما كان من تحت يده وبقى الذكر، ولم تبقى الا سيرتهم والناس يذكرونهم بحسب أثارهم ؛ فترى شخص يقول رحمه الله كان خيراً لنا وناس تقول لا يرحمه الله كان شراً علينا، وبقيت الآثار شاخصة والسيرة شاخصة والناس تتكلم بهذه الآثار فترى الناس.

ثم يقول (عليه السلام) : (فأما الأموال فلا بد أن يؤتى عليها فيكون نفعها لغيره، أو لنائبة من نوائب الدهر تأتي عليها فتكون حسرة على أهلها...).

لاحظوا المنافسة الامام (عليه السلام) بين وسائل الإغراء لا تقع انت فيها.. الإنسان عندما يتمكن ثروات وجيش وهذه كلها تجعله يكتنز بلا رقيب وحسيب.. الامام (عليه السلام) يقارن: (فأما الأموال فلا بد أن يؤتى عليها فيكون نفعها لغيره، أو لنائبة من نوائب الدهر تأتي عليها فتكون حسرة على أهلها ) وهذا حقيقة نوع من التهديد خطير.. الأموال لا تمثل قيمة للإنسان والآثار والسيرة هي القيمة فالإنسان اذا لم يُحسن لا قيمة حقيقية له.

وهذا إضافة الى ان المال ذهب سيكون حسرة لأن غالباً تكدس الأموال لا يأتي بموازين مقبولة قد يكون فيه تجاوز على حقوق الآخرين وأموالهم فإذا ذهبت هذه الأموال تكون حسرة لا هذا الذي أخذها انتفع بها و لا بقيت عند ذلك المسكين ويوم القيامة يسألهم الله عن ذلك سؤالا ً حثيثاً.

ثم الامام (عليه السلام) بين لمالك ميزان قال (عليه السلام): (وإن أحببت أن تعرف عواقب الإحسان والإساءة وضياع العقول في ذلك فانظر في أمور من مضى من صالح الولاة وشرارهم).

الإحسان له عاقبة والإساءة له عاقبة وضياع العقول ايضاً له عاقبة.. ان أحببت ان تعرف عاقبة هذه الأمور.. (فانظر في أمور من مضى من صالح الولاة وشرارهم).

ثم قال (عليه السلام): (فهل تجد منهم أحداً ممن حسنت في الناس سيرته، وخفّت عليهم مؤونته وسخت بإعطاء الحق نفسه أضر به ذلك في شدة ملكه).

هذا السؤال هنا موضع سؤال ولكنه للنفي حيث هنا السؤال الامام (عليه السلام) يريد ان يبين لمالك انك لا تجد فهذا عنوان سؤال ولكنه موضوع للنفي.. فترى الناس تذكر احد الولاة بالسيرة الطيبة وانه كان يفكر في خدمة وإعطاء حق الرعية.

واقعاً عندما يتأمل كلام امير المؤمنين (عليه السلام) يتألم لما يمر بالناس والمظالم كثيرة.. المتصدي عندما يسخو ويعطي ويرى ان هذا المقدار هو الحق فنفسه لا تتوقف.. مثلا ً اذا انت في بعض الحالات ترى ان الحق ليس معك والشيطان يزين لك بان الحق ليس معك ولكن انت تحارب نفسك وتنتصر وتقوم تعطي الحق لهذا الشخص.

لكن غير معلوم...

الآن الحق المالي اذا كان الف او مليون انت تقوم تعطيه لكن غير معلوم اذا كان الحق مليار مثلا ً تفعل نفس الفعل تقوم تعطيه او هناك مجموعة من المتزلفين يمنعوك عن فعل الحق..!!

هذه الصفات الثلاثة هل تجد هذه الصفات اضر به ذلك في شدة ملكه او في لذات بدنه او حسن ذكره بين الناس، لا لا يوجد شيء من هذا، بالعكس فعل هذه الأشياء والناس تترحم على أيامه حيث كان يرفق بهم.

تعال الى الطرف الأخر، يقول (عليه السلام): (أو هل تجد أحداً ممن ساءت في الناس سيرته واشتدت عليهم مؤونته كان له بذلك من العز في ملكه، مثل ما دخل عليه من النقــص به في دنياه وآخرته).

تراه سيء جداً لا يحترم الناس تربع على عرش وبدأ يظلم هذا وذاك ويسجن هذا ويفعل ما يحلو له.

هل أصبحت له عزّة مع ابتعاده عن الله سبحانه وتعالى وظلم الناس.. ومثال على احد الطواغيت الحجاج والذي هو طاغوت وسيف من سيوف معاوية ومعروف قصته مع سعيد بن جبير وما فعله في تلك الأيام، ولكن انظروا ما هي عاقبته.

إنما الدنيا دول وتدور وعلى الإنسان ان يلتفت ويعتبر من طواغيت التاريخ.

ثم يقول (عليه السلام): (فلا تنظر إلى ما تجمع من الأموال، ولكن انظر إلــى ما تجمع من الخيرات، وتعمل من الحسنات، فإن المحسن معان..).

هذا هو المنهاج الذي رسمه امير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه )، والحمد لله رب العالمين.

اضف تعليق