نشغل المراقبون بعد انتهاء معركة الباغوز السورية التي شنت للقضاء على تنظيم داعش باحتمالية أن تدفع تلك الهزيمة التنظيم نحو ليبيا التي تخلصت من التنظيم في السابق بعد أن كانت تعتبر أكبر معاقله خارج دولة الخلافة المنكوبة الآن في العراق وسوريا.

لكن مع تمكن التنظيم في الآونة الأخيرة من شن هجمات عنيفة في الأراضي الليبية، يبدو أن ما فتح الباب على مصرعيه أمام عودة التنظيم لا يعود فقط لهزيمته في سوريا والعراق، وإنما للصراع الداخلي الليبي الذي كانت آخر فصوله هجوم اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس من أجل السيطرة عليها، فقبل هذه المعركة وبعدها تزايدت عمليات التنظيم ضد المرافق والبلدات الليبية.

داعش في ليبيا.. الخطر القديم المتجدد

ظهر تنظيم (داعش) في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، فقد أُعلن عن بيعته للتنظيم الأم في شريط فيديو نشره ما سمي بـ"مجلس شورى شباب الإسلام" من مدينة درنة الساحلية في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، وقبل زعيم (داعش) أبو بكر البغدادي ـ فيما بعد ـ ليبيا كجزء من "دولة الخلافة" وقسمها إلى ثلاث "ولايات"، هي برقة (شرق) وطرابلس (غرب) وفزان (جنوب).

ويمكن القول إن التنظيم تأسس في درنة معتمدًا في تشكيله على تجنيد محلي ومغاربي ومصري، ثم ضم جنسيات أفريقية أخرى، خاصة من السنغال، والتشاد، والسودان، ومن درنة انتقل (داعش) إلى بعض المدن، وخاصة بنغازي، قبل أن ينتقل إلى سرت، مسقط رأس القذافي، التي أعلن فيها إقامة إمارته وتطور سريعًا فيها حتى بلغ أوج قوته في العام 2015، ومن سرت بدأت جموع من المقاتلين التوافد على المدينة التي حاربته فيها  جماعة "أنصار الشريعة".

وفي عام 2016 تمكنت القوات الليبية المحلية مدعومة من الولايات المتحدة من طرد (داعش) من سرت، لكن هذه الهزيمة لم تنف احتمالية عودة (داعش) بعد تنظيم صفوفه خارج سرت في الصحاري والمناطق الجبلية في ليبيا، خاصة أن الأوضاع الداخلية الليبية المتنازعة لم تنته، وحالت دون هزيمة حقيقة لـ(داعش).

وخلال النصف الأول من 2017 تواصلت ملاحقة العشرات من عناصر (داعش) في ليبيا، خاصة في المنطقة الممتدة من جنوب سرت إلى الجنوب الشرقي لمدينة بني وليد (170كم جنوب شرق طرابلس)، إلا أن التنظيم أخذ ينشط في وسط الصحراء الليبية، خاصة بعد انسحاب القوة الثالثة (المنحدرة من مصراتة) من الجفرة.

وعادت الأنظار إلى خطر (داعش) في ليبيا بعد هزيمة التنظيم في العراق وسوريا، وتخوف مراقبون من أن تصبح ليبيا محطة الخلافة الجديدة لـ(داعش)، وقد حذر بعض الخبراء من أن سرت على وجه الخصوص يمكن استخدامها كنقطة انطلاق لشن هجمات ضد الأوروبيين، وفي العام 2018 أكدت دائرة أبحاث الكونجرس أن (داعش) ما تزال تشكل تهديدًا قويًا في ليبيا، ففيها مجموعة تضم 3 آلاف و4 آلاف عضوًا ما زال لديهم القدرة على شن هجمات كبيرة داخل ليبيا وعبر الحدود.

وبالفعل فقد تحول (داعش) في ليبيا الآن إلى استراتيجية جديدة ترتكز على  شن هجمات فردية منظمة لاستهداف مؤسسات حيوية أو خدماتية للحكومة الليبية، كما حدث في الهجوم الذي استهدف مقر "المؤسسة الوطنية للنفط" في طرابلس في سبتمبر (أيلول) 2018، أو بمستجدات سياسية ليبية، فلمجرد الحديث عن وصول مسودة الدستور إلى مفوضية الانتخابات في طرابلس، وبدء المفوضية الاستعداد للاستفتاء عليه في مايو (أيار) 2018، نفذ (داعش) هجومًا على مقر المفوضية، اعتبر أقسى هجوم تعرضت له العاصمة الليبية على يد التنظيم.

بيئة الفوضى تغذي "داعش"

في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، هاجم تنظيم (داعش) بلدة الفقهاء الواقعة في منطقة نائية جنوبي منطقة الجفرة بالجنوب الشرقي للعاصمة الليبية طرابلس، وروعت نحو 25 آلية مسلحة للتنظيم سكان البلدة بعد أن أحرقت بيوتهم، وخطفت بعض أبنائهم.

هذا الهجوم الذي جاء انتقامًا من قيام الجيش الليبي باعتقال إحدى قيادات التنظيم، ويدعى جمعة القرقعي تكرر في 10 أبريل (نيسان) 2019، حين أعلن التنظيم أنه سيطر على بلدة الفقهاء، التي تبعد نحو 600 كيلومترًا من طرابلس، لعدة ساعات.

بيد أن الهجوم الأخير جاء بعد ستة أيام من شن اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يطلق على قواته اسم "الجيش الوطني الليبي" هجومًا في الرابع من أبريل الجاري للسيطرة على العاصمة طرابلس من حكومة الوفاق الوطني المُعترف بها من قبل الأمم المتحدة؛ إذ استغل التنظيم النزاع الداخلي الليبي بين قوات حفتر وحكومة الوفاق الوطني كغطاء لشن هجوم مميت مفاجئ على البلدة.

ليظهر بذلك أن التنظيم استعاد بثبات قوته بعد أن فقد قبضته في أواخر عام 2016، فهو يتمتع بصمود تنظيمي، واستغلال ذكي للمجال الجغرافي في ليبيا، وقادر على خلق مناطق آمنة ينطلق منها لفرض سياسته الجديدة المعتمدة على الهجوم والاختفاء. وبذلك يثبت (داعش) أنه طيلة سنوات قتاله في ليبيا كان تنظيمًا مرنًا ومتكيفًا مع ظروف الصراع الليبي الداخلي، فهزيمته سواء في درنة عام 2016 أو في سرت عام 2017 لا تعني انتهاء التنظيم، بل تحول استراتيجيته القتالية، واعتماده تكتيكًا عصيًا على الاستنزاف بإرباك الوضع الأمني الليبي.

يقول الخبير السياسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية طارق مجريسي: إن "بيئة الفوضى التي تعيشها ليبيا يمكن أن تزيد من قوة تنظيم داعش الإرهابي، فليبيا بلد كبير، ويمكن لـ(داعش) أن يكتسب القوة من بيئة الحرب والفوضى التي تسودها، وهذا من الممكن أن يؤدي إلى موجة هجرة جديدة، مثل التي تشهدها أوروبا في يومنا هذا"، معتبرًا أن الهجوم على مناطق غربي ليبيا من قبل حفتر بمثابة أكبر تعبئة للمقاتلين والجهات الفاعلة الليبية منذ عام 2011، وتابع القول في إطار ندوة للجمعية البرلمانية لـ"حلف شمال الأطلسي (ناتو)" أن "هجوم حفتر يعود لسبيين: اعتقاد حفتر بأنه سيقضي على التهديدات الموجهة إليه، وسياسات الدول الأخرى التي تحمي الديكتاتوريات".

هل يحارب حفتر "الإرهاب" حقًا أم يغذيه؟

تعتمد واشنطن في جهود "مكافحة الإرهاب" في ليبيا على حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، إذ تدرك واشنطن أن توفر فرص للإرهاب في ليبيا يهدد مصالحها وحلفاءها، ولذا اضطرت لاتباع استراتيجية فعالة لحل الأزمة السياسية حتى لا تصبح ليبيا مرتعًا للتنظيميات المتطرفة، وأولها (داعش).

لكن بعض التقارير التي تتحدث عن وجود مقاتلين محسوبين على مجموعات مسلحة متطرفة تقاتل مع القوات الموالية لحكومة الوفاق الليبية ضد قوات حفتر، وبرغم نفي حقيقة ذلك من قبل حكومة الوفاق، إلا أن تلك التقارير قد أثارت قلق إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجعلتها أكثر قناعة بأن حفتر يمكن الاعتماد عليه كحليف في جهود مكافحة الإرهاب، فمحور مصر والسعودية والإمارات نجح في إظهار رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج كرجل ليس أمثل للداعمين الإقليميين؛ بسبب موقفه من المعارك التي كان يقودها حفتر قبل أشهر ضد الفصائل المسلحة وسط ليبيا، عقب القضاء على عناصر "داعش" في سرت.

ويبدو أن ترامب الذي أعلن عن سحب بعض قواته من ليبيا في أبريل 2019 بسبب تصاعد العنف في العاصمة طرابلس قد اقتنع أسوة بمؤيدي حفتر (روسيا وفرنسا) أن الأخير قادر على استعادة الاستقرار ومكافحة الجماعات الجهادية في ليبيا، وأولهما تنظيم "القاعدة" و(داعش) كما فعل في قتاله السابق ضد تلك التنظيمات.

يؤكد المحلل السياسي الليبي عماد بلعيد أن تغير موقف المجتمع الدولي بشكل عام والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص هو أمر حتمي مرتبط بطبيعة التغيرات العسكرية على الأرض، فخليفة حفتر سوق نفسه عبر عدد من لوبيات الضغط بأنه قادر على اقتحام العاصمة وفرض سيطرته عليها خلال 48 ساعة وقد اعتمد في ذلك على عنصر المفاجأة بحيث كانت جميع الأطراف تنتظر "الملتقى الوطني الجامع" برعاية أممية لإنهاء حالة الانقسام السياسي في البلاد.

ويشير بلعيد إلى أن قضية محاربة حفتر للإرهاب أكذوبة انتهى زمانها، بل إن بعض الخلايا التي كانت موجودة في بنغازي ودرنة خرجت منهما بالتنسيق مع قوات حفتر إلى غرب البلاد، مضيفًا لـ"ساسة بوست" أن "هجوم حفتر على طرابلس بهذه الوحشية سيفتح الباب لعودة تنظيم الدولة أو أي قوة متطرفة أخرى، سواء كانت دينية أو قبلية، وخصوصًا أن الجميع يعلم أن جزءًا من القوات التي تتصدى لحفتر الآن في جنوب طرابلس هي قوات البنيان المرصوص، والتي استطاعت القضاء على التنظيم في عاصمته سرت بعد أن قدمت 700 شهيد".

ويشدد بلعيد على أن حالات الصراع العسكري من هذا النوع تخلق بيئة خصبة لتنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي مثلًا الذي أدخله حفتر في حالة فراغ أمني؛ مما قد يجعله ملاذًا آمنًا للعناصر المتطرفة الهاربة من سوريا.

وفي المحصلة يبدو أن المجتمع الدولي لا يزال غير قادر على فرض النظام في ليبيا؛ مما يعني إمكانية أن تنضج الظروف لإنشاء "دولة إسلامية أخرى"، خاصة أن ترامب يقابل الحد من بصمة قوات مكافحة الإرهاب الأمريكية في معظم أنحاء العالم برغبة قوى أخرى في تحمل العبء.

اضف تعليق