تعوّدنا في الأعوام القليلة الماضية أن نفوّض كلّ أنواع المهام الصعبة والمملّة إلى أجهزة الحاسوب، فإذا أردنا معرفة اتجاهات القيادة، أو الاطّلاع على التقييم الأكاديمي، فإننا نتّجه إلى أجهزتنا الذكية بلا تردّد؛ فهي تنفّذ المهامّ بدقة أفضل، ومجهود أقل أما في وقتنا الحالي، فقد أثبت جهاز الحاسوب تفوّقه في جانب آخر من حياة الإنسان، وهو كتابة التقارير الصحفية التي كانت في السابق حكراً على الصحفيين المُدرَّبين؛ إذ طوّرت شركة نارتيف ساينس Narrative Science الناشئة، التي تتّخذ من مدينة شيكاغو الأمريكية مركزاً لها، برنامجاً مبتكراً يستطيع كتابة التقارير الصحفية كما يفعل البشر تماماً.

ركّزت الشركة في بداياتها في الأسواق والعملاء المتخصّصين، الذين يعدّون قصصاً متكرّرةً، ويمتلكون كميات كبيرة من البيانات الرقمية؛ لكتابة المقالات الرياضية أو التقارير المالية؛ لأن تحليل مجموعة من البيانات، واستخراج مدلولاتها، وكتابة قصة تستند إلى حقائق، هو أمر قابل للتطبيق على نطاق واسع؛ فقد أكّد مؤسّسو الشركة أن باستطاعة البرنامج تقديم تحليل موثوق وسهل القراءة.

لكن، بحسب الدراسة، سيؤدي التطور التقني "في مستقبل غير بعيد" إلى القدرة على صياغة مقالات لا تكتفي بجمع العناصر الخبرية، بل تتعدى ذلك إلى التحليل، ومن دون أي حاجة لصحفيين.

ويزيد من سرعة هذه الظاهرة تطور تقنيات التفاعل الصوتي بين الحاسوب والمستخدمين، وفقا للمعهد، ورأى الباحثون أن الطريقة التي ستتعامل فيها وسائل الإعلام مع هذا الواقع الجديد ستكون حاسمة في رسم مستقبلها، ودعا المعهد الصحفيين والمؤسسات المختصة إلى عقد شراكات لتعزيز التعاون مع كبرى مجموعات الإنترنت لتطوير التجارب في هذا المجال.

هل لذكاء الاصطناعي يستلزم صحافةً أصيلة

لقد أوكل العديد من غرف الأخبار ووكالات الأنباء، منذ وقتٍ مضى، الأخبار الرياضية، والأحوال الجوية، وحركة الأسواق المالية، وكذلك مواضيع أداء الشركات إلى أجهزة الكمبيوتر وقد نتفاجأ لأن باستطاعة الآلات تقديم أخبارٍ أبلغ وأكثر شمولية ممّا يقدمه بعض المراسلين فعلى عكس العديد من الصحافيين الذين غالباً ما ينسبون قصتهم إلى مصدرٍ واحد، فإن البرامج الرقمية قادرة على استيراد البيانات من مصادر عدة، والتعرّف على النزعات والنماذج، واستخدام تقنية معالجة اللغة الطبيعية، ووضع تلك النزعات ضمن إطارٍ سياقيّ، وتركيب جمل منمّقة تضمّ نعوتاً، وصوراً مجازية، وتشابيهاً كما أصبح بإمكان الأجهزة الآلية الآن تحرير تقارير صحافية عن عواطف الجمهور في مباراة كرة قدم متقاربة النتيجة.

بإمكان الآلات الذكية أن تزيد من زخم تقارير الصحافيين، وإبداعهم، وقدرتهم على استرعاء انتباه الجماهير من خلال اتّباع نماذج البيانات، وبرمجته "لتعلّم" المتغيّرات فيها مع الوقت، يصبح بإمكان الخوارزميات مساعدة الصحافيين على ترتيب النصوص، وفرزها، وصياغتها بسرعةٍ لم يتصوّرها عقل من قبل فهي قادرة على تنظيم البيانات من أجل العثور على الحلقة الضائعة في أيّ تحقيق صحافي.

كما إن بإمكانها التعرّف على النزعات، ورصد النشاز من بين ملايين نقاط البيانات التي قد تشكّل بدايةً لسُبُقٍ صحافيٍّ عظيم فاليوم، مثلاً، أصبح بإمكان وسائل الإعلام تلقيم بيانات المشتريات العامة للخوارزمي، والقادر بدوره على مراجعة البيانات ومقارنتها بالشركات الكائنة على العنوان نفسه وقد يمنح تحسين هذا النظام المراسلين الصحافيين العديد من التلميحات التي قد تقودهم إلى عقر الفساد في بلدٍ معيّن.

ولا يقتصر عمل أجهزة الكمبيوتر الذكية على تحليل كميات هائلة من البيانات للمساعدة على إنهاء التحقيقات بسرعة؛ بل إنها أيضاً تساعد على إيجاد المصادر، والتحقق من وقائع القصص من الجمهور لمعرفة ما إذا كانت المساهمات محط ثقة وفقاً لتقرير صدر في عام 2017 عن Tow Centre، يستخدم العديد من وسائل الإعلام في الولايات الأميركية الذكاء الاصطناعي حالياً للتحقق من الوقائع فوكالة رويترز، مثلاً، تستخدم News Tracer لتعقّب الأخبار العاجلة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من نزاهة ما يُنشر على Twitter. من جهة ثانية، تستخدم مجموعة Serenata de Amor البرازيلية، والتي تضم عدداً من الصحافيين وعشاق التقنية، لتعقّب كل عملية ردّ أموال يزعمها مجلس الشعب في البلاد، ولإلقاء الضوء على بعضٍ من النفقات العامة المُشتبه فيها.

هناك العديد من الطرق الأخرى التي تسمح للخوارزميات بمساعدة الصحافيين بدايةً من إعداد مقاطع الفيديو الخام، وصولاً إلى التعرّف على النماذج الصوتية والكشف عن هوية الوجوه ضمن جماعة من الأشخاص بالإمكان برمجتها للدردشة مع القرّاء (روبوتات الدردشة) والردّ على الاستفسارات أما الجزء الأصعب، فيكمن في كون هذه العملية مستحيلة بدون وجود صحافي بشري يطرح الأسئلة عن البيانات، واضعاً هدفاً معيناً نصب عينيه، يجب على المراسلين والمحررين أن يتعلّموا بسرعة طريقة تشغيل هذه الأنظمة، والطريقة التي تسمح لهم باستعمالها لتحسين عملهم الصحافي.

لا يتمتع معظم الصحافيين في العالم بوصول إلى فريقٍ من المبرمجين وعلماء البيانات لمساعدتهم على تصميم مشاريعهم وبنائها التعاون هو الحل بإمكان غرف الأخبار الصغيرة والصحافيين المستقلين التعويض عن النقص في الموارد من خلال التعاون مع مُطوِّري البرامج الرقمية، للمساعدة على بناء أواصر علاقة تعاون مستمرة كما قد تزداد بصيرتهم في رصد أدوات البحث والتحليل مفتوحة المصدر العديدة المتوفرة.

ليس التواصل ما بين الصحافيين واختصاصيي التقنية بالأمر البديهي بل إنه يحتاج إلى الكثير من التعلّم من كِلا الجانبين، وإلى بعضٍ من التجارب والأخطاء بفضل التطوير التقني المتواصل، أصبح للصحافيين مجموعة أدوات لا تكفّ تتوسّع تسمح لهم بمحاسبة السلطة بفضل هذه القدرة المتزايدة على الإصغاء إلى مجتمعاتهم المحلية والتعرّف على احتياجاتها، قد يكون عدم المحاولة أمراً مؤسفاً.

مضاعفات أخلاقية وقانونية

لا تزال المضاعفات الأخلاقية والقانونية المتعلقة بالأخبار المؤتمتة تحظى بقليل من الإجابات وتطرح الكثير من التساؤلات، حسب قول ماتياس سبيلكامب، مؤسس ومدير منظمة "ألغوريثمواتش" المعنية بالتحقق من تبعات القرارات الخوارزمية على المجتمع ويشير إلى وجود مقاربات كثيرة للنصوص المنتجة آلياً، بحيث أن بعض القراء يحتاجون للشفافية في حين أن عدداً منهم يبدو غير مبالٍ.

ويمتد الجدال إلى مساحات صحفية أخرى كتوزيع المحتوى المؤتمت، وكيفية توزيع نطاقات المسؤولية القانونية، حيث يدرج مثال حول صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإذا لجأت إلى شبكة توزيع روبوتية واسعة لدفع المحتوى وتوجيهه لشريحة معينة من الجمهور، فإن كثراً سيشعرون بالنفور من الخطوة بغض النظر عن مصداقية النقل الصحفي وتشير بعض الآراء إلى أن ظهور مقال تشهيري ما في الصحف سيعرّض الناشر للمساءلة حتى لو كانت الآلة هي "الموقعة".

هل ينافس الذكاء الصناعي البشر

دعت مديرة معمل الذكاء الصناعي بجامعة "ستانفورد" في-في لي إلى نهج أسمته "الذكاء الصناعي في خدمة الإنسان" من أجل القيادة المسؤولة لتطوير الآلات الذكية وقالت في-في لي رئيسة معمل الذكاء الصناعي بستانفورد وكبيرة علماء أبحاث الذكاء الصناعي بخدمة غوغل السحابية "غوغل كلاود"، إنه إذا كنا نرغب في أن يلعب الذكاء الصناعي دورا إيجابيا في عالم الغد، فيجب أن نخضعه لتلبية الاحتياجات والتطلعات الإنسانية.

وأوضحت أن ما يريده الناس هو أن لا تصبح الآلات منافسة لهم، بل شريكة في ضمان الرفاه، وأن تحقيق ذلك هو مسؤولية الناس أنفسهم، وأنه لا توجد تكنولوجيا أكثر تعبيرا عن تطلعات وطموحات وقيم صانعها أكثر من الذكاء الصناعي، وقالت إن الذكاء الصناعي لا يزال بحاجة لتطوير كبير حتى يكون قادرا أكثر على التعبير عن العمق والثراء والتعقيد الذي يميّز الذكاء البشري ولتحقيق ذلك لا بد من الاستبصار الذي يمكن تحصيله من علوم أخرى غير علم الحاسوب، الأمر الذي يعني أن على المبرمجين أن يتعلموا كيف يتعاونون مع خبراء في حقول أخرى.

وتقول في-في لي إن هذا التعاون سيمثل عودة إلى جذور علم الحاسوب وليس ابتعادا عنه، مضيفة أن الشباب المتخصصين في الذكاء الصناعي اليوم سيندهشون إذا علموا أن مبادئ خوارزميات التعلم العميق الموجودة حاليا تمتد إلى ما قبل أكثر من 60 عاما إلى الباحثيْن في علم الأعصاب ديفد هابل وتورستن ويسيل اللذين اكتشفا كيفية استجابة مختلف الخلايا العصبية في القشرة الدماغية للقط إلى المثير.

كذلك كان برنامج "إميج نت" للصور معتمدا على مشروع يُسمى "وورد نت" أنشأه في عام 1995 عالم القدرات الإدراكية واللغوي جورج ميلر لتنظيم المفاهيم الدلالية للغة الإنجليزية، ومضت في-في لي تقول إن إعادة ربط الذكاء الصناعي بحقول علمية مثل علم الإدراك وعلم النفس وحتى علم الاجتماع ستعطينا أساسا أكثر ثراء لتطوير ذكاء الآلات من أجل أن تساهم الآلات في تحسين وضع الناس بدلا من أن تحل محلهم.

تشير دراسة حديثة أجرتها وكالة "ذا أسوشييتد برس" إلى أنه بحلول العام 2027، ستحظى غرف الأخبار بترسانة من أجهزة الذكاء الاصطناعي، وسيعمل الصحافيون على الدمج السهل للآلات الذكية في منظومة عملهم اليومي وسيتمكن الذكاء الآلي من القيام بأكثر من مجرد التمخض عن تقارير إخبارية مباشرة مؤتمتة.

سيتيح الذكاء الاصطناعي للصحافيين تحليل البيانات، وتحديد الأنماط والتيارات من مختلف المصادر، رؤية أشياء لا يمكن معاينتها بالعين المجردة، وتحويل البيانات والكلام الشفهي إلى نص، والنص إلى محتوى مسموع ومرئي، وفهم المشاعر، وتحليل مشاهد الأشياء والوجوه والنصوص أو الألوان وسواها حين يستخدم الصحافيون تلك الأدوات لتعزيز التقارير والكتابة والتحرير، نحصل على ما نسميه الصحافة المعززة.

نجاح غير مضمون

من المؤكد أن موجة الابتكار التكنولوجي المقبلة لا تختلف عن سابقاتها، بمعنى أن نجاحها سيظل يعتمد على كيفية تطبيق الصحافيين للأدوات الجديدة فالذكاء الاصطناعي صناعة بشرية، وإن كافة التأثيرات الأخلاقية والتحريرية والاقتصادية المرعية لدى إنتاج محتوى إخباري تقليدي لا تزال تطبّق على هذا العصر الجديد من الصحافة المعززة.

مصير الصحفي

أن العقل البشري هو سرّ مقدّس، وأن علاقتنا بالكلمات هي علاقة فريدة من نوعها وعميقة؛ فليس هناك إنسان آلي يستطيع أن يخوض تجربة التأليف، ويقلّد الصحفيين لكن عملية الكتابة متقلّبة، ولا يمكن التنبؤ بها، أو حتى محيرة، يمكن أن يتم قياسها كمياً وصياغتها؛ فعند كتابة قصة قصيرة فالكاتب يفعل تماماً ما يفعله برنامج التأليف؛ مثل: استخدام كمّ هائل من البيانات؛ أي: تجربتي في الحياة، لاستنتاج ما يحدث في العالم، وتقديم هذه الاستنتاجات في موضوع ما، وربطها بأحداث ذات صلة، وصياغتها في التركيب الأنسب؛ أي: على أساس الأمور التي استوعبتها من القراءة والاطلاع والملاحظة وأخذ دروس في الكتابة الإبداعية؛ لذلك فمن المحتمل أن تستطيع الآلة كتابة رسائل تحوي إيقاعاً شعرياً أيضاً باختيار أفعال صحيحة، وأسماء المعرفة، والبعد من الظروف، وأن بعض علماء النحو يستطيعون أن يستخدموا عدة طرائق لجعل الجملة مقبولة؛ كالخطباء التقليديين حينما يستخدمون المقابلة، وردّ العجز على الصدر، والجناس، والطباق، وقد قال لي هاموند: من الممكن نظرياً لبرنامج التأليف أن يكتب قصصاً قصيرة، وأن يكتب قصة مثالية (إحصائياً) تستخدم معرفتنا حول اللغة والأدب السردي، وقد تمّت هذه المحاولات من قبل؛ إذ كتب موسيقيون روسيون أسوأ الأغاني وأفضلها على مر التاريخ استناداً إلى البيانات الاستقصائية، لكن أعتقد أن فهم الحاسوب الفن لن يتطابق تماماً مع فهمنا مهما كانت توجيهاتنا محددة إضافةً إلى ذلك، يقف دائماً خلف نجاح الصحافة الأشخاص في النهاية؛ فهم أفراد رائعون بأفكارهم وعملهم الذي يتغيّر ويتطور باستمرار.

ان ابسط تفاصيل حياتنا مليئة بالاحداث والمشاعر والاحاسيس اذا كان بالرضى او الحزن والاذى والجوع والحب ان كل اللحظات الانسانية لا يمكن ان تحلل لانها مليئة بالتعقيد فالانسان وحده يستطيع طرحها وفضلا عن جوانب اخرى من الحياة فكل ذلك محال ان تصل لفهمه الة فالصحافي ما زال لديه دور في الكتابة.انتهى/س

مركز النبأ الوثائقي يقدم الخدمات الوثائقية والمعلوماتية

للاشتراك والاتصال [email protected]

او عبر صفحتنا في الفيسبوك (مركز النبأ لوثائقي)

..............................

المصادر

-الشرق الاوسط

-مجلة الفيصل العلمية

-سكاي نيوز عربي

-الجزيرة

-Medium

اضف تعليق