كانت مجرد دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بتخفيض أسعار الوقود، قبل أن تتحول إلى حركة شعبية أطلق عليها "السترات الصفر". بدأت أولى فعالياتها في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) حين تظاهر نحو 3 آلاف شخص في العاصمة الفرنسية باريس، ومع تجاهل الحكومة لمطالبهم أخذت الاحتجاجات تتوسع لتشمل عددًا أكبر من المدن الفرنسية وتزداد حدتها بعد أسبوع من اندلاعها لتتحول في بعض المناطق إلى اشتباكات واسعة بين المتظاهرين والشرطة الفرنسية.

ربما لم تتخيل الحكومة الفرنسية أو الكثير من المتابعين أن تحدث تلك المظاهرات اضطرابًا سياسيًا كبيرًا، وربما كان تجاهل الحكومة لمطالب مئات الآلاف على الإنترنت ومن بعدها المظاهرات التي كانت في بدايتها لإلغاء الضرائب الجديدة على الوقود هو السبب في تعاظم الأزمة وتحولها إلى ما يشبه ثورة بعد أن توسعت الاحتجاجات والمطالب لتصل إلى المطالبة بخفض تكاليف المعيشة المرتفعة ووصل الأمر إلى المطالبة بانتخابات رئاسية جديدة لإسقاط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وقد استفادت "السترات الصفر" من عدم وجود قيادة موحدة لها وعدم انتماء أعضائها لأي من الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية، الأمر الذي صَعَّب تعامل الحكومة الفرنسية مع المتظاهرين، وكلما تراجعت الحكومة خطوة للخلف كلما تقدم المتظاهرون خطوة أخرى للأمام من خلال تصعيد مطالبهم.

وفي الرابع من ديسمبر (كانون الأول) أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب تعليق الضرائب الإضافية على الوقود لمدة 6 أشهر وهو ما رفضه المتظاهرون وتمسكوا بتنظيم المظاهرات في باريس وطالبوا الرئيس ماكرون بالذهاب إلى صناديق الاقتراع، وبعد يوم واحد أعلن الرئيس ماكرون إلغاء الضريبة على الوقود للعام 2019 بشكل نهائي، تبعها إصدار قرارات أخرى بزيادة الحد الأدنى للرواتب وإلغاء ضريبة التقاعد.

ظن البعض أن هذه القرارت ستنهي تظاهرات السترات الصفر وتعيد الهدوء إلى فرنسا لكن مظاهرات أخرى للطلاب بدأت تتزايد في شوارع فرنسا رفضًا لماكرون وسياسات حكومته بشأن التعليم في البلاد، وتسبب اعتقال العشرات من الطلاب بصورة مهينة في تزايد أعداد المتظاهرين.

ومع تصاعد الاحتجاجات تراجعت شعبية الرئيس الفرنسي إلى أدنى مستوى لها منذ خمس سنوات، وبحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إيفوب فيدوسيال"، لصالح مجلة "باري ماتش"، و"سود راديو"، لم يحصل ماكرون في هذا الاستطلاع سوى على تأييد 23% من المستطلعة آراؤهم، متراجعًا بمقدار 6% مقارنة بآخر استطلاع أجري في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أقل أيضًا بمقدار 5% عن أغسطس (آب) الماضي. وأشارت المجلة إلى أن ماكرون، خسر 18 نقطة في 5 أشهر فقط، واعتبرته تسارعًا قياسيًا لعدم الثقة بشعبيته.

التجربة الفرنسية كانت ملهمة للكثير من الشعوب الأخرى، واستنسخ البعض تجربة السترات الصفر مثلما حدث في القارة العجوز في كل من بلجيكا وهولندا وألمانيا وبلغاريا فيما قام البعض الآخر بإدخال تغييرات طفيفة على التجربة التي وصلت إلى كل من تونس وبوركينا فاسو بالقارة الأفريقية، فيما دعا نشطاء أردنيون إلى مظاهرات بـ"الشماغ الأحمر" في الوقت الذي حارب النظام الفكرة في مصر من قبل أن تبدأ.

في مشهد يحاكي تلك الأحداث التي وقعت في فرنسا تظاهر المئات من أصحاب السترات الصفر في العاصمة البلجيكية بروكسل، تعبيرًا عن رفضهم للسياسات الاقتصادية لحكومة بلادهم وغضبهم من ارتفاع الأسعار. المظاهرات البلجيكية قوبلت بعنف من قوات الأمن التي قامت باعتقال نحو 100 شخص في 8 ديسمبر (كانون الأول) بعد عمليات تدقيق بحسب تصريحات للمتحدثة باسم شرطة بروكسل فان دي كيير لوكالة "فرانس برس".

ووقعت اشتباكات بين الشرطة البلجيكية والمحتجين الذين حاولوا اختراق السياج الأمني والحواجز المؤدية إلى الحي الذي يقع فيه البرلمان الأوروبي ومقر الاتحاد الأوروبي وباقي الهيئات الأوروبية والذي أغلق حينها بشكل كامل قبل أن يعود الهدوء مرة أخرى بعد عملية الاعتقال.

وخلال كلمة لرئيس الوزراء البلجيكي هتف متظاهرون "نحن الشعب. انتهيت يا تشارلز ميشيل"، ورد ميشيل على أحداث العنف بتغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر قال فيها: "العنف غير مقبول في بروكسل.. يجب أن يعاقب البلطجية واللصوص".

وربما كانت الحكومة البلجيكية أكثر ذكاء من نظيرتها الفرنسية في التعامل مع مطالب المتظاهرين الأمر الذي جعل المظاهرات تنحسر شيئا ما، حيث أعلنت مديرية الطاقة البلجيكية في 23 نوفمبر عن خفض سعر البنزين في محطات التزود بالوقود.

وفي العاصمة الهولندية أمستردام وبعد تظاهرات للسترات الصفر التي سيطر عليها اليمين المتطرف ظهرت دعوات أخرى على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك للتظاهر بالسترات الحمراء. وخلال الأسبوعين الأخيرين شهدت العديد من المدن الهولندية مظاهرات للسترات الصفر للاحتجاج على ميثاق الأمم المتحدة للهجرة وسن التقاعد والغلاء في قطاعي الصحة والتعليم ومشكلة اللاجئين.

وشهدت مدن أمستردام ولاهاي وروتردام وآيندهوفن ويوفاردن وخرونينجن وألكمار ونيميجن وتيل وماستريخت مظاهرات للسترات الصفر، وقام المتظاهرون في بعض المدن بتوزيع الورود على المارة في الوقت الذي أوقفت فيه الشرطة 3 متظاهرين لتوجيههم إهانات للشرطة وحملهم سكاكين وألعاب نارية.

وذكرت السترات الحمر في بيان لها أنها قررت النزول إلى الشارع الهولندي لتنظيم مظاهرات احتجاجية ضد رئيس الوزراء مارك روتة والمطالبة بنظام حكم اجتماعي. وقالت إنها ستنظم مظاهرات في مدينة أوترخت ضد الحكومة، وأشارت إلى أن مظاهرات السترات الصفر سيطر عليها اليمينيون المتطرفون في هولندا ولذلك تم تفعيل السترات الحمراء في إشارة إلى أن الحركة الجديدة لا تنتمي إلى أي فصيل سياسي أو حزبي.

ألمانيا.. اليمين المتطرف يركب الموجة

وفي برلين دعت ثلاث منظمات من اليمين المتطرف إلى مظاهرة بالسترات الصفر أمام بوابة براندنبورج للاحتجاج على ورقة ميثاق الأمم المتحدة "من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة" التي وافق عليها البرلمان الألماني وينبغي اعتمادها الأسبوع القادم في مراكش.

وعلى الرغم من أن المطالب التي رفعها أصحاب السترات الصفر في برلين بعيدة عن تلك المطالب التي رفعها أقرانهم في باريس استجاب للدعوة نحو ألف شخص. ونقلت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية عن أحد المحتجين الألمان قوله "إن نضالهم يلتقي مع نضال السترات الصفر في فرنسا، فهم يريدون التخلص من ميركل وفي فرنسا يريدون التخلص من ماكرون".

اضف تعليق