كان كاتب هذه السطور أحد أولئك المحظوظين الذين تمكنوا من الحصول على تذاكر لبعض المباريات الخاصة بمونديال روسيا 2018، الذي استضافته بلاد بوتين في الفترة بين 14 يونيو (حزيران) و15 يوليو (تموز). كانت الرحلة التي استمرت لثلاثة أسابيع مثيرة بشكل تجاوز سقف توقعاتي بكثير؛ إذ تعرفت إلى دولة كاملة ذات ثقافة مختلفة كثيرًا عما اعتدنا عليه سواء في البلاد العربية، أو حتى في الدول الأوروبية.

دائمًا هناك انطباع مسبق لدى الكثير، ليس العرب فقط، لكن ربما العالم كله، أن روسيا هي هذه البلاد المغلقة التي يتحكم فيها الأمن في كل شيء، ولن تستطيع التحرك إلا وهناك من يعد لك أنفاسك. ليس هذا فحسب، لكننا نظن أيضًا أن الشعب الروسي هو ذلك الشعب غليظ القلب، قاسي الملامح. لكن هذه النظرة كانت خاطئة بالكامل، وربما هو ما لا يجعلنا نرى الكثير من إنجازات هذا الشعب.

من بين أبرز ما لفت انتباهي كان ذلك التطبيق الغريب الذي يستخدمه سائقو التاكسي، والذي أشاهده كلما تنقلت من مكان لآخر سواء في العاصمة موسكو، أو المدن الروسية الأخرى. دائمًا ما كان السائق يذكر موقع الوجهة صوتيًّا، وليس باستخدام شاشة الهاتف، "منطقة المشجعين موسكو"، هكذا قال السائق في أول مرة ركبت فيها التاكسي.

في البداية ظننت أن هذا التطبيق ربما يكون مخصصًا لسائقي التاكسي فقط، لكن مع مرور الوقت هناك، وطلبي سيارات "أوبر"، لاحظت أن التطبيق يوجد تقريبًا في كل سيارة روسية، هو بمثابة "خرائط جوجل" التي لا نستغني عنها في تنقلاتنا اليومية بالنسبة للشعب الروسي.

في اليوم الثالث، عرفت أن هذا التطبيق اسمه "ياندكس". حسنًا، الخطوة التالية كانت متوقعة، دخلت إلى متجر التطبيقات على هاتفي وكتبت "Yandex"، هنا كانت الصدمة والمفاجأة بالنسبة لي. عشرات التطبيقات التي تحمل اسم "ياندكس" بينها تطبيق الخرائط، والملاحة، والبريد الإلكتروني، وطلب سيارات الأجرة، ومتصفح الإنترنت، والتخزين السحابي، والترجمة، والتنقلات عبر المترو، وحفظ كلمات السر، والطقس، والمواصلات العامة، والموسيقى، ورحلات الطيران، وغيرها العشرات.

شعرت أنني أقف أمام العملاق العالمي "جوجل" لكنه نسخة من تصنيع روسي بالكامل. هنا كان لا بد أن أفهم كيف أن هناك شركة تكنولوجية عملاقة مثل هذه، لكن الكثيرين لا يعرفون عنها شيئًا.

في روسيا.. لا تقل "جوجل" بل "ياندكس"

في روسيا، ليس "جوجل" أو "أوبر" أو "سبوتيفي" أو "أمازون" هم الملوك، كما يعرف عنهم في الكثير من دول العالم. في روسيا، "ياندكس" هو الذي يحكم. تمتلك هذه الشركة 52% من جميع عمليات البحث على الإنترنت في البلاد، وتتحكم في 61% من سوق الإعلان على الإنترنت. خدمة التسوق "Yandex.Market" يستخدمها 19 مليون شخص في الشهر الواحد، وتمثل خدمة "Yandex.Taxi" حوالي 60% من جميع تحركات سيارات الأجرة في العاصمة موسكو، ببساطة شركات وادي السيليكون الأمريكية العملاقة تكافح هنا كثيرًا حتى يظل لها موطئ قدم، لكن في المقابل "ياندكس" تزدهر.

إذن ما هو سرها؟ يقول أركادي فولوز، المؤسس والمدير التنفيذي لشركة "ياندكس" ومقرها موسكو، والذي أطلق الخدمة في عام 1997: "نحن نطلق على أنفسنا شركة عبر- محلية". مصطلح "عبر- محلية" أو "trans-local"، هو بمثابة الترجمة لمقاربة مختلفة للأعمال: تحدد "ياندكس" سوقها حيث يكون المنافسون ضعفاء، ثم تبني بدائلها الخاصة. في السنوات الأخيرة، توسعت الشركة إلى أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء وتركيا وأوزبكستان وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا. لكن روسيا لا تزال محل تركيزها وسوقها الرئيسية، وقد أثار هذا التقارب أسئلة حول علاقة "ياندكس" مع الدولة الروسية.

في عام 1997، قبل أن ينشئ لاري بيدج وسيرجي برين محرك بحث "جوجل"، أسس إيليا سيغالوفيتش وأركادي فولوز بالفعل شركة "ياندكس". "لذلك نحن لم نقلد (جوجل)"، على حد قول فولوز. وتبقى "ياندكس" شركة رائدة في السوق الروسية، لكن المنافسة تزداد صعوبة كل عام.

ظهر محرك البحث الروسي "ياندكس" لأول مرة في 23 سبتمبر (أيلول) 1997، أما الشركة نفسها فيعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1990، عندما أسس كل من أركادي فولوز وأركادي بوركوفسكي شركة باسم "أركاديا"، مستخدمين نظام تشغيل "مايكروسوفت دوس" لتصنيف السلع وبراءات الاختراع، ومعتمدين على تقنيات البحث والفهرسة باستخدام اللغة الروسية.

انضمت "أركاديا" وأصبحت جزءًا من شركة "كمبتك انترناشيونال"، والتي كانت قد تأسست في عام 1989، ومنذ عام 1993 وحتى 1996 عملت الشركة على تطوير تقنيات البحث، وأطلقوا برنامجًا للبحث في الكتاب المقدس والأدب الروسي.

ليست مجرد شركة بل "فخر وطني"

"ياندكس" أكثر من مجرد شركة كبيرة. إنها مسألة فخر وطني. يحب الروس ارتداء الملابس من العلامات التجارية العالمية والأمريكية الرئيسية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالخدمات عبر الإنترنت، فإنهم يذهبون إلى المنتج المحلي. من المؤكد أن "جوجل" تراقب سوق الإنترنت في روسيا، حيث لا يزال معدل انتشاره الإجمالي بنسبة 70% فقط، لكن في المقابل فإن انتشار الإنترنت يصل لنسبة 80% إلى 90% في معظم الدول الأوروبية الأخرى.

أيضًا روسيا، بسكانها البالغ عددهم 144 مليون نسمة، يظهر بها نمو مزدوج في استخدام الإنترنت خلال السنوات القليلة الماضية. كل هذا يجعل "ياندكس" مستحوذة على سوق كبيرة بالفعل، لكنه لن يجعلها في مأمن من محاولات "جوجل" أيضًا.

وبشكل عام فإن "ياندكس" هي شركة روسية متعددة الجنسيات متخصصة في المنتجات والخدمات المتصلة بالإنترنت، بما في ذلك خدمات البحث والمعلومات والتجارة الإلكترونية والنقل والملاحة والتطبيقات المتنقلة والإعلانات عبر الإنترنت. توفر "ياندكس" أكثر من 70 خدمة في المجموع. ورغم أن التأسيس بدأ في هولندا، إلا أن الشركة تخدم في المقام الأول الجماهير في روسيا ودول الكومنولث المستقلة. يتواجد مؤسسو الشركة ومعظم أعضاء الفريق في روسيا.

"ياندكس" هي أكبر شركة تكنولوجيا في روسيا، وأكبر محرك بحث على الإنترنت باللغة الروسية، بحصة سوقية تزيد على 52%. الصفحة الرئيسية لموقع "Yandex.ru"هي الموقع الأكثر شعبية في روسيا، وفقًا لترتيب "أليكسا" حينما أطلعنا عليه وقت كتابة التقرير، كما أن لديها أكبر حصة سوقية من أي محرك بحث في كومنولث الدول المستقلة، وهي خامس أكبر محرك بحث على مستوى العالم بعد "جوجل" و"بايدو" و"بينج" و"ياهو"، طبقًا لأحدث ترتيب للمواقع العالمية من "أليكسا" وقت كتابة هذا التقرير.

أسباب تجعل "ياندكس" رائدة سوق الإنترنت في روسيا

تقدم "ياندكس" نهجًا مختلفًا لطلبات البحث. ففي حين أن "جوجل" تركز أكثر على حساب ترتيب الصفحات في مواقع الويب، فإن خوارزمية الترتيب في "ياندكس" تأخذ في الاعتبار المسافة بين الكلمات، ومدى ملاءمة المستندات لطلب البحث. في عام 2017، أطلقت الشركة خوارزمية الشبكة العصبية الجديدة (Korolev)، والتي تجعل عمليات البحث أكثر فاعلية.

وتعد "ياندكس" أكبر شركة إعلامية في روسيا، وتقدم خدمات البريد المجاني والخرائط والموسيقى والفيديو وتخزين الصور والتطبيقات، والعديد من المنتجات الأخرى التي توفرها "جوجل" أيضًا. نجحت الشركة الأمريكية في إغراء الناس بعيدًا عن المنافسين مثل: "ياهو" أو "دروب بوكس"​​، لكن النسخة الروسية من هذه الخدمات الدولية متشابهة في الجودة مع "جوجل"، ومكيفة بشكل جيد للمستخدمين المحليين، وأحيانًا أفضل. بمعنى أنها الأنسب للمواطن الروسي.

"ياندكس" هو أفضل خيار للبحث في اللغة الروسية، وجرى إنشاؤه خصيصًا للسوق الروسية، ويمكنه التغلب على العديد من العقبات اللغوية. بالإضافة إلى ذلك، فإن "ياندكس" هو الأفضل لفهم "CrazyFont": وهو عبارة عن كتابة الكلمات الروسية باستخدام النص اللاتيني بدلًا من الأحرف السيريلية، (يشبه الفرانكو عربية لدينا). استخدام "CrazyFont" شائع كثيرًا خاصة بين الروس الذين يعيشون في الخارج.

ليس هذا فحسب، بل إن "ياندكس" تفوقت حتى على "جوجل" في بعض الخدمات؛ هل سمعت عن تطبيق "جوجل" لسيارات الأجرة؟ بالطبع لا، لأنه ببساطة غير موجود. لكن في روسيا، يوجد تطبيق "Yandex.Taxi" وهو الأكثر شعبية من تطبيق "أوبر" الشهير. في الواقع، دمجت الشركتان جهودهما في عام 2017؛ إذ جرى إنشاء واحدة من أقوى خدمات سيارات الأجرة في روسيا. كما تحل "ياندكس".

وتمكنت "ياندكس" من تطوير واحدة من أكثر توقعات الطقس دقة في العالم، بفضل خوارزمياتها المتطورة. لديها حتى خريطة الرياح. في البداية، خطط المطورون لإنهاء هذه الخدمة، لكنهم غيروا رأيهم بعد طلبات من الصيادين الروس، الذين يستخدمونها لفهم أنماط هجرة الأسماك.

وأخيرًا، والأهم من ذلك، فإن "ياندكس" هو الأكثر قدمًا، وبالتالي استحوذ بشكل رائع على السوق الروسية. في عام 2004، عندما انتقلت "جوجل" إلى روسيا، كان الوقت قد فات بالفعل؛ إذ جرى ضرب محرك البحث الأمريكي بشدة بسبب تفوق "ياندكس". واليوم، يظل "ياندكس" أكثر محركات البحث شعبية في روسيا وشركة الإنترنت رقم واحد.

في عام 2014 ، بدأ موقع "جوجل" في السوق الروسية في التحسن بفضل حقيقة أن المزيد من الروس يستخدمون خدمات الإنترنت على أجهزتهم الجوالة. وفقًا لـ"Mail.Ru Group"، يستخدم 75% من الروس نظام أندرويد على هواتفهم الذكية، مما يجعل "جوجل" محرك البحث الأول على الجوّال.

لكن "ياندكس" تحارب هذا الأمر، في عام 2016، حثت الشركة على إجراء تحقيق في نظام التشغيل أندرويد، مدعية أن الفرع الروسي لشركة "جوجل" ينتهك قوانين مكافحة الاحتكار في روسيا. وفي أغسطس (آب) 2017، حصل مستخدمو أندرويد في روسيا أخيرًا على خيار في متصفح "Chrome Mobile"، يتيح لهم اختيار محرك البحث المفضل لديهم. وقالت الشركة في بيان "هذا علامة فارقة كبيرة للمستخدمين الروس وشيء نعمل عليه منذ فترة طويلة".

الشركة تتعامل مع النظام الروسي بمرونة

لعلنا كلنا نتذكر حمى لعبة "بوكيمون جو" الشهيرة وقت إطلاقها، وكيف أصبح الآلاف، وربما الملايين يتجولون في كل مكان بحثًا عن البوكيمونات. في ذلك الوقت، وقع عدد من أغرب الحوادث على الإطلاق وأكثرها طرافة. بعض الأشخاص وصلوا إلى داخل أقسام الشرطة لاصطياد البوكيمونات، وآخرون انتهى بهم الحال في أماكن محظورة وغيرها.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، بدأ شيء غريب يحدث حول الساحة الحمراء في قلب العاصمة موسكو. فقد فوجئ أي شخص يلعب لعبة بوكيمون جو أو يحاول اجتياز الطرقات المعزولة القريبة من الكرملين، حيث مقر الرئاسة في العاصمة الروسية باستخدام نظام تحديد الموقع (GPS)، يُنقل فجأة إلى موقع مطار "فنوكوفو" الدولي، على بعد 29 كم.

وفقًا لما أعلنته شركة "ياندكس"، فقد كان الكرملين يمنع بشكل سري إشارات نظام تحديد المواقع العالمي GPS. هذه بالطبع مشكلة كبيرة لأسطول المشتركين في خدمة "Yandex.Taxi" من السائقين. لكن بالنسبة للشركة، لم يكن الأمر غير طبيعي، فطبقًا لمسؤولين بها "هم يحمون أنفسهم من الطائرات بدون طيار أو أيًّا كان، لا نعرف لماذا يفعلون ذلك، لكن لديهم أجندتهم الخاصة بالتأكيد".

هكذا استطاعت هذه الشركة التعامل بيسر وتفهم مع السياسات التي ربما تكون غير معتادة للحكومة الروسية.

الشركة لا تشعر بوجود أي "احتكاكات" مع الدولة، لكن على الرغم من ذلك فإن "روسيا السلطوية والانعزالية بشكل متزايد لها تأثير في أعمال "ياندكس"، على حد تعبير فولوز.

في بعض الأحيان، جرى توجيه تهمة مباشرة لـ"ياندكس" أنها تعمل لحساب أجندة خاصة. ظهر هذا في أبريل (نيسان) 2014، عندما ادعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الإنترنت هو "مشروع وكالة المخابرات المركزية"، وألمح إلى أن "ياندكس" كانت تسيطر عليها المخابرات الأجنبية.

في ذلك الوقت هبطت أسهم الشركة بنسبة 20%. ويبدو أن غضب بوتين كان موجهًا نحو التكوين الدولي لمجلس إدارة "ياندكس" الذي يضم أعضاء أمريكيين وسويسريين وهولنديين.

نجاح "ياندكس" في قطاع التكنولوجيا المتعثر في روسيا هو أمر كبير وقوي جدًا. في مايو (أيار) 2011، طرحت الشركة في بورصة نيويورك، إذ جمعت 1.3 مليار دولار (مليار جنيه إسترليني)، والتي كانت في ذلك الوقت أكبر اكتتاب عام منذ سنة 2004.

وفي يونيو (حزيران) 2014، جرى إدراجها في بورصة موسكو، وفي السنوات الأخيرة افتتحت مكاتب في الصين وفرنسا وألمانيا وهولندا وسويسرا وتركيا، حتى وصل انتشار مكاتبها إلى 22 دولة مختلفة. هذه النظرة الدولية المتزايدة تحمي جزئيًّا "ياندكس" ضد تقلبات السوق الروسية، لكن الشركة أيضًا تدرك أن خدماتها يمكن أن تنجح في مكان آخر.

المصدر: ساسة بوست

اضف تعليق