أثارت قضيّة اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي بعد زيارته للسفارة السعوديّة في إسطنبول ثم الأخبار والتصريحات التي أطلقتها الشرطة التركيّة عن مقتله داخلها الكثير من الجدل، وطرحت قضيّة الحصانة التي تتمتّع بها البعثات الدبلوماسيّة ومدى مشروعيّة ارتكابها لمثل هذه الممارسات الإجراميّة داخل أسوار قنصليّتها دون تدخّل من الدولة المستضيفة، وهي تركيا في هذه الحالة. فهل يمكن للدول تفتيش قنصليات دول أخرى على أراضيها؟ هذا ما عمل هذا التقرير على دراسته طبقًا لقواعد ولوائح القانون الدولي، والمعاهدات الدبلوماسية والقنصلية.

ابن سلمان "يتلاعب بالألفاظ" في دعوته لدخول القنصلية

في حواره مع وكالة "بلومبيرج" الأمريكيّة، أكد محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، استعداد بلاده للترحيب بالحكومة التركية للدخول، وتفتيش القنصلية السعودية في إسطنبول للتأكّد من خلوّها من جمال خاشقجي، مشيرًا إلى أن مبنى القنصلية يقع على أرض ذات سيادة سعودية، لكنه سيسمح لهم بالدخول والقيام بالبحث وفعل ما يشاؤون "إذا طلبوا ذلك، فليس لدينا ما نخفيه" حسب تعبيره.

ويتّضح وجود تلاعب بالألفاظ في تصريح ابن سلمان من ناحية القانون الدولي، بخصوص جملة "إذا طلبوا ذلك"؛ إذ إنه لا يمكن للدولة المستضيفة أن تطلب من الدولة صاحبة السفارة أو القنصلية، أن تقوم بتفتيش سفارتها، فذلك يعتبر مخالفًا للأعراف الدبلوماسية، وإنما يكون الطلب غالبًا بإرادة من رئيس البعثة الدبلوماسية نفسها، وبالتالي، فإن دعوة ابن سلمان لتركيا تبدو وكأنها صادقة وحقيقية شكليًّا، ولكنه يعلم جيدًا أنه لا يمكن لدولة أن تقوم بتفتيش سفارة دولة أخرى على أراضيها إلا بطلب من السفير، أو القنصل، أو الوزير المفوَّض، وهي المستويات الثلاثة لرئاسة أي بعثة دبلوماسية أو قنصلية في العالم، مع ملاحظة أن ابن سلمان لم يطلب دخول مسؤولين أتراك للتفتيش، وإنما أكد أنه سيرحب بدخولهم في حال طلبوا ذلك.

وفي الوقت نفسه لا يمكن لتركيا القيام بتفتيش القنصلية السعودية في إسطنبول، إلا إذا طلب  كبار المسؤولين السياسيين السعوديين ذلك بأنفسهم، أو رئيس البعثة الدبلوماسية السعودية في تركيا، أو القنصل السعودي في إسطنبول، أو القائم بأعمال أي منهما في حالة غيابهما.

يأتي هذا في ظل الالتزام التركي بقواعد القانون الدولي في التعامل مع قضية خاشقجي؛ إذ إن تركيا لم تطلب من الجانب السعودي تفتيش السفارة، وإنما تعاملت بقواعد وأعراف القانون الدولي؛ فـاستدعت سفير المملكة العربية السعودية في تركيا، طالبةً منه تفسيرًا حول حادث اختفاء خاشقجي على الأراضي التركية.

حصانة البعثات الدبلوماسيّة "خطّ أحمر" في اتفاقية فيينا

ركَّز القانون الدولي العام على جانب البعثات الدبلوماسية بتفاصيلها المختلفة، المتعلقة بمقر البعثة الدبلوماسية، وحماية أفراد البعثة، وطبيعة العلاقات الدبلوماسية بين كل بلدين. وقد ذُكر في العديد من المعاهدات الدولية التي وقَّعت عليها تقريبًا جميع دول العالم، بما فيهم تركيا والمملكة العربية السعودية، على حصانة مقرّ البعثة الدبلوماسية.

وقد عرَّف القانون الدولي، وخاصةً اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، الصادرة عام 1961، مقر البعثة الدبلوماسية على أنه المباني والأراضي التي تستخدم في أغراض البعثة الدبلوماسية، ويدخل فيها مكان إقامة رئيس البعثة نفسه؛ سواء كان برتبة سفير، أو قنصل، أو وزير مفوَّض. وقد منح القانون الدولي والقوانين الداخلية للدول حصانة لمقر البعثة الدبلوماسية؛ وذلك لأنها مستمدة من مقومات الدولة الموفدة وسيادتها.

وفي الوقت نفسه، ينطبق نفس الأمر على حصانة سكن أفراد البعثة الدبلوماسية، لأنها مستمدة من حصانتهم الشخصية؛ فقد ذكر فقهاء القانون الدولي أن حرية الممثل السياسي تبقى ناقصة وطمأنينته مهدّدة إذا لم تكن حرمة داره مصونة؛ إذ يحظر على رجال السلطتين القضائية، والتنفيذية، دخولها.

وقد تطرّقت المادة 16 من اتفاقية هافانا 1928، إلى مبدأ حرمة مقر البعثة، ونصَّت على أنه: "لا يدخل أي مأمور قضائي، أو إداري، أو أي موظف في الدولة التي يعتمد لديها الموظف الدبلوماسي دار الأخير، أو مقر البعثة، دون موافقته".

كما نصت المادة الثامنة من نظام الحصانات الدبلوماسية، والذي أقره معهد القانون الدولي عام 1929، على أنه: "تتمتع دار البعثة الدبلوماسية، ودار السكن، بالحصانة، ولا يحق لرجال السلطة التنفيذية الدخول إليها للقيام بمهمة رسمية إلا بعد موافقة رئيس البعثة، ولا يجوز في أي حال تفتيش دار البعثة، أو حجزها، أو تفتنيش وحجز الأمتعة الشخصية الخاصة برئيس البعثة والممثلين الدبلوماسيين وأوراقهم الخاصة والمراسلات الرسمية والمحفوظات".

وقد نصت المادة 22 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 على أنه: "للأماكن الخاصة بالبعثة حرمة مصونة؛ فلا يجوز لرجال السلطة العامة للدولة المعتمَد لديها دخولها ما لم يكن ذلك بموافقة رئيس البعثة"، وهذا يعني عدم جواز اقتحام، أو تفتيش مقر البعثة من قِبل رجال السلطة في الدولة المستقبلة أو المعتمِدة، أي أن السلطات المحلية لا تستطيع القيام بأي انتهاكات لدار ومقر البعثة؛ سواء كان ذلك مصادرة، أو حجزًا، أو تفتيشًا. وهو الأمر نفسه في دور سكن المبعوثين الدبلوماسيين؛ فلا يمكن دخولها دون موافقة رئيس البعثة.

متى يمكن لرجال الدولة المعتمدة دخول سفارة دولة أخرى؟

هل يمكن لدولة ما أن تدخل سفارة دولة أخرى على أراضيها؟ الإجابة هي دائمًا لا يمكن. ولكن هناك حالات استثنائية قليلة للغاية؛ أهمها هو وجود خطر أو تهديد على الأمن القومي للدولة المعتمدة أو المستقبلة. هناك حالات أخرى محدودة؛ فقد نصت المادة 45 من اتفاقية فيينا على أن: تراعي في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين أو الاستدعاء المؤقت أو الدائم لإحدى البعثات الأحكام التالية:

يجب على الدولة المعتمد لديها حتى في حالة وجود نزاع مسلح احترام وحماية دار البعثة، وكذلك أموالها ومحفوظاتها.

يجوز للدولة المعتمدة أن تعهد بحراسة دار البعثة وكذلك أموالها ومحفوظاتها، إلى دولة ثالثة تقبل بها الدولة المعتمد لديها وبالتالي تفرض حصانة هذه الوثائق واحترام سريتها، وعدم سرقتها أو المساس بها.

ولكن متى تُقيد حصانة المقار الدبلوماسية فيُسمح باختراقها ؟ يجيب القانون الدولي بالحالات التالية:

الحالة الأولى: في حالة إيواء الفارين من العدالة أو منح اللجوء السياسي؛ وبالرغم من وجود هذه المادة، إلا أنها ما زالت غير مُلزمة، فلم تتمكن بريطانيا من القبض على جوليان أسانج، مؤسس شبكة ويكيليكس، الموجود في سفارة الإكوادور في لندن حتى هذه اللحظة منذ ما يقرب من ستة سنوات، بسبب تسريب موقعه وثائق سرية.

الحالة الثانية: في حالة اشتعال حريق في مقر البعثة؛ وبالرغم من وجود هذه المادة أيضًا، إلا أنه تبقى الكلمة العليا لرئيس البعثة الدبلوماسية، أو من ينوبه؛ ففي عام 1962، رفض سفير رومانيا في لندن دخول رجال الإطفاء إلى السفارة الرومانية لإطفاء الحريق الذي شب فيها، وهو ما التزمت به السلطة البريطانية حينها.

الحالة الثالثة: في حالة وقوع اعتداء على أحد الموجودين بمقر البعثة واستغاث هذا الشخص برجال السلطة العامة المحلية؛ وهو ما حدث الفعل في عام 1896، وذلك عندما طلب السيد سون يات سين –الذي أصبح أول رئيس للجمهورية الصينية بعدها- مساعدة رجال السلطات المحلية في لندن، وذلك بعد احتجازه لساعات فيها.

الحالة الرابعة: في حالة استخدام مقر البعثة لما يهدّد أمن واستقرار الدولة المضيفة؛ مثل تخزين الأسلحة على سبيل المثال، ولكن يشترط التأكد من هذا الأمر قبل دخول مقر البعثة.

وبإسقاط هذه الشروط على أزمة خاشقجي، نجد أنه لا يوجد أي سبب قد يدفع تركيا إلى تفتيش القنصلية السعودية في إسطنبول، إلا في حالة اعتبار تركيا أن اختفاء شخص أجنبي على أراضيها قد يشكّل تهديدًا لأمنها القومي واستقرارها.

هل غادر خاشقجي السفارة؟ ابن سلمان قد يكون صادقًا

تشير القوانين الدولية إلى أنّه يجب على الدولة المستقبِلة اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية من أجل حماية وحراسة مقر البعثة الدبلوماسية لأي دولة، ومنع اقتحامها أو الإضرار بها من قِبل أي شخص، ويلحق بمقر البعثة كافة الملحقات، من حدائق، وجراجات للسيارات، فضلًا عن الأثاث الخاص بالبعثة الدبلوماسية؛ فقد نصت المادة 22 من اتفاقية فيينا أيضًا على أن: "الأماكن الخاصة بالبعثة وأثاثها، والأشياء الأخرى التي توجد بها، وكذلك وسائل المواصلات التابعة لها لا يمكن أن تكون موضع أي إجراء من إجراءات التفتيش أو الاستيلاء أو الحجز". وهو الحال نفسه لما يعرف باسم "الحقيبة الدبلوماسية" التي قد تأخذ أي شكل أو حجم، وتحمل أي شيء، ولا يجوز تفتيشها، أو فتحها، أو فرض أي جمارك أو رسوم جمركية عليها.

وبتطبيق هذه المادة على حالة خاشقجي، يمكننا القول أن ما صرَّح به ابن سلمان لوكالة "بلومبيرج" حول عدم وجود خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول قد يكون صادقًا، فيمكن للقنصلية السعودية أن تكون نقلت خاشقجي في إحدى السيارات الدبلوماسية في تركيا، أو حتى في حقيبة دبلوماسية. وفي حالة حدوث هذا أو ذاك، فإن السلطات التركية لا تملك الحق لتفتيش هذه الأغراض؛ أيًا كان نوعها وحجمها، طبقًا للقانون الدولي.

حصانة البعثة الدبلوماسيّة ليست صكًّا على بياض

وفي حال تورط السعودية في اختفاء خاشقجي، فإنها بذلك تكون قد أساءت استخدام حصانة مقرّ البعثة الدبلوماسية في تركيا؛ فقد نصت المادة 41 من اتفاقية فيينا على أنه: "لا يجوز استعمال الأماكن الخاصة بالبعثة على وجه يتنافى مع مهام البعثة كما بينتها القواعد العامة للقانون الدولي، أو الاتفاقات الخاصة المعمول بها بين الدول المعتمدة والدولة المعتمد لديها".

ومن هنا، تستطيع تركيا، في حال تورط السعودية، رفض ما حدث، وإخضاع أي أعمال غير مشروعة حدثت داخل مقر البعثة الدبلوماسية إلى القانون والقضاء المحلي.

ويعتبر انتهاك مقر البعثة الدبلوماسية من قِبل السلطات المحلية للدولة المستقبلة أمرًا خطيرًا، ويلقي بالمسؤولية على الدولة التي قامت بهذا الانتهاك، وقد يستدعي في بعض الأحيان قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

الجدير بالذكر أن هناك عددًا من الحالات التي انتهكت فيها حصانة المقار الدبلوماسية في بعض الدول؛ ومن ضمنها ما حدث في كوبا؛ إذ قامت مجموعة من القوات الحكومية الكوبية بـاقتحام ومصادرة مقرّ السفارة الأمريكية في هافانا عام 1964.

وأيضًا ما حدث في البرازيل عام 1964؛ إذ تم الاعتداء على السفارة المجرية في ريو دي جانيرو، وذلك بعد قيام مجموعة من رجال الشرطة باقتحام مبنى السفارة، والقيام بعمليات تخريبية بداخلها. كما أنه في عام 1963، قطعت جمهورية الدومينكان علاقاتها الدبلوماسية مع دولة هايتي، وذلك بعد قيام عدد من القوات الهايتية باقتحام واحتلال سفارة الدومينيكان في العاصمة الهايتية "بورت أو برنس" بسبب لجوء 20 مواطنًا من هايتي إلى سفارة جمهورية الدومينيكان. انتهى/خ.

المصدر: ساسة بوست

اضف تعليق