بدأ شهر أغسطس (آب) بعدة عقوبات اقتصادية فرضتها الولايات المتحدة بداية بروسيا في قضية تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب في بريطانيا، كما أعادت فرض عقوبات واسعة ضد إيران دخلت حيّز التنفيذ بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي؛ وما أعقبه من صدام مع الجار الأوروبي الذي رفض عزل طهران اقتصاديًا بعدما فعّل الاتحاد الأوروبي قانون عرقلة العقوبات، إضافة إلى معاقبة ثلاث شركات من الصين وروسيا وسنغافورة لاتهامهم بانتهاك نظام العقوبات الدولية المفروض على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي.

لكنّ الساحة أصبحت أكثر اشتعالًا عندما فرض ترامب عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، على خلفية استمرار احتجاز أنقرة للقس الأمريكي أندرو برونسون، ليرد أردوغان بقرار مماثل بتجميد أي أصول في تركيا لوزيري الداخلية والعدل الأمريكيين؛ لكنّ تغريدة نشرها الرئيس الأمريكي والتي أعلن فيها مضاعفة الرسوم الجمركية على الألومونيوم والصلب المستورد تسببت في فقدان الليرة التركية 16% من قيمتها، ورغم أن تركيا هرعت إلى أصدقائها ومنهم الأمير القطري الذي سُرعان ما دعم حليفه بـ15 مليار دولار، إلا أنّ المفاجأة كانت في انضمام حُلفاء جُدد لأردوغان يجمعهم به خصومة سياسية وأبرزهم العراق.

وصل الخلاف السياسي بين البلدين إلى مستويات غير مسبوقة من التراشق اللفظي منذ أواخر عام 2016 على خلفية دخول القوات التركية إلى إقليم كردستان العراق في الشمال لقتال عناصر حزب العمال الكردستاني الذي تُصنفه تركيا جماعةً إرهابية، وقبلها بعام شنت الحكومة العراقية هجومًا على تركيا بعد رفض أردوغان سحب الجيش التركي الذي كان يُقاتل تنظيم (داعش) في عُمق الأراضي العراقية؛ وحتى الآن لا تزال القوات التركية في داخل عُمق 29 كيلو مترًا في إقليم كردستان العراق، وهي تمهد لعملية وشيكة ضد الأكراد.

تركيا ساهمت بشكلٍ أو بآخر في الاحتجاجات العراقية المندلعة منذ أوائل يوليو (تموز) الماضي لعدة أسباب أبرزها نقص الكهرباء، وانخفاض منسوب نهري دجلة والفرات إلى أكثر من 40% بسبب قيام تركيا بملء سد "أليسو" التركي الذي بدأت تركيا فعليًّا ملأه بالمياه تزامنًا مع قطع إيران روافد دجلة وتحويلها إلى الداخل الإيراني، وبالعودة إلى الخلاف السياسي؛ فالرئيس التركي سبق له أن هاجم "الحشد الشعبي" -فصائل في العراق بأغلبية شيعية مدعومة من إيران- واعتبره منظمة إرهابية يجب القضاء عليها؛ وقبل أن يتحول الحشد إلى كتلة سياسية باسم تحالف "الفتح"، الذي حلّ في المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، انتقد أردوغان ما أسماه "التوسع الفارسي" لأتباع إيران في الداخل العراقي.

اللافت أن رئيس الوزراء حيدر العبادي المنتهية ولايته كان قد أعلن التزامه بالعقوبات الأمريكية ضد إيران، رغم وصفه لها بأنها "ظالمة"، لكن عندما سقطت تركيا تحت طائلة العقوبات، أعلن العبادي وقوف بغداد إلى جانب أنقرة في قضية الليرة، ودعمها في كافة التدابير التي ستتخذها، حتى أنه طار إلى أنقره للقاء الرئيس التركي الذي تجمعهما خصومات سياسية، لكنّ الظرف الراهن يقتضي الحفاظ على الشراكة الاقتصادية، والخروج معًا من الأزمات المشتركة؛ إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 10 مليارات دولار.

والعقوبات الأمريكية التي استهدفت طهران وأنقرة ألقت بظلالها على بغداد التي تشترك جغرافيًا مع البلدين؛ والعراقُ الآن بات حبيسًا دون ظهير إقليمي؛ فهو في أزمة سياسية مكتومة مع طهران بسبب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي فازت كتلته الانتخابية بالمركز الأول والذي يشكل مع حيدر العبادي الذي جاء في المركز الثالث، تحالفًا جديدًا يرسم الخريطة السياسية بعيدًا عن طهران، ومن جهة أخرى تعرضت بغداد لخذلان عربي بعد رفض السعودية مدّ العراق بالطاقة على خلفية التظاهرات التي تشهدها البلاد، مما جعل الحكومة العراقية تتجه للحصول على قرض مالي من اليابان بقيمة 192 مليون دولار؛ لتأهيل محطة كهربائية في الجنوب للحد من أزمة نقص الطاقة.

كل تلك الأسباب جعلت العبادي يتجه صوب تركيا في أزمتها بحثًا عن حليف سياسي جديد؛ وهو الرهان الذي فاز به العبادي في زيارته الأخيرة لتركيا؛ فأردوغان  أعلن أن أمن العراق ورخاءه واستقراره، هو من أمن تركيا ورخائها واستقرارها،ليحسم عدة ملفات بين البلدين أبرزها المياه والتبادل التجاري بين البلدين وملف الطاقة والنفط.

وحصل العبادي على وعدٍ تركي بالحصول على حصة العراق كاملة من المياه بالإضافة لتعهد تركيا بتقديم مساعداتها لإنهاء التظاهرات العراقية، ومن جهة أخرى تُعطى العراق الضوء الأخضر لضبط الحدود، في إشارة لشن عملية عسكرية على الإقليم الكردي تحت مُسمى محاربة الإرهاب؛ وفي المقابل يقوم العراق بإصلاح خط أنابيب النفط من حقول كركوك إلى ميناء جيهان التركي، مرورًا بمحافظتي صلاح الدين ونينوى، لتعبر الأراضي التركية، كما تتعهد تركيا بتقديم منحة مالية لإعادة إعمار العراق، مع قيام الشركات التركية بالاستثمار وبناء محطات للطاقة وهو الطلب الذي سبق أن رفضته السعودية؛ ما يعني أن العقوبات الأمريكية رسمت شكلاً جديدًا في العلاقات التركية العراقية أهمها: النفط مقابل الماء، والتدخل العسكري في الإقليم الكردي مقابل إعمار العراق. انتهى/خ.

المصدر: ساسة بوست

اضف تعليق