بات وضع العراق بعد عام 2003 معقدا، حيث الفوضى عمت المدن العراقية بعد دخول القوات الامريكية للعراق، اعقبها تشكيل مجلس الحكم وتلاها سريعا كتابة الدستور وحكومة انتقالية، وصولا الى حرب طائفية احترق فيها الاخضر واليابس، سنوات لم تمهل العراق الوقت الكافي للتعافي.

وللحديث عن هذا الموضوع ومواضيع اخرى وكالة النبأ للأخبار التقت بالكاتب الصحفي علي الطالقاني واجرت الحوار التالي:

ـ مع عودة المدن المحتلة الى العراق بعد دحر تنظيم داعش الارهابي، هل تعتقد ان التنظيم الارهابي قادر على التغلغل مرة اخرى؟

في مثل هذا اليوم التاسع من حزيران 2014، سيطر تنظيم داعش على اجزاء من الموصل، وارتكب مجازر دامية وبفضل سواعد الابطال تم استعادتها، فهل يمكن القول ان التنظيم انتهى دوره تماما، برغم من اعتماده تكتيكيا من أجل بقاء فكرة وجوده، انه انتهى في الاطار الاستراتيجي ولا يمكن عودته مرة أخرى.

فقد 98% في كل من سوريا والعراق، وبقيت لديه مواقع سرية ومنشآت تحت الارض، وبمجرد القضاء على فروع التنظيم سينتهي في سوريا تماما، اما في العراق فانه يختفي مع اختفاء العامل الطائفي، وعلى المستوى الاعلامي فقد انحسر دوره بشكل كبير جدا، بعد ان كان يجند شهريا أكثر من 3000 عنصر من مختلف دول العالم.

ـ هل استطاع الاعلام العراقي ان يعمل بحرفية بما يخص وثائق تنظيم داعش التي بحوزته؟

منذ سقوط الموصل وانطلاق عمليات التحرير، حذرنا مرات ومرات من استقطاب وسائل اعلام دولية بدون ان تكون اي جهة استدعت هذه الوسائل على قدر كبير من المسؤولية، لان اغلب وسائل الاعلام تعمل بشكل محترف في الحصول على المعلومة بعيدا عن المعايير الاخلاقية، وبالتالي فان ما حدث هو تهريب للاف الوثائق الخاصة بداعش لمصلحة هذه الصحف لأنها لا تقدر بثمن وترتبط بمخابرات واجهزة امن دولية.

حرب المعلومات هي السلاح الاقوى في الحرب.. الايجابي في الامر ان المناطق المحررة اصبح الاهالي يتمتعون بمستوى جيد من الوعي حتى ان الكثير لم يعير الاهمية لأي منحة مالية من اجل ايصال معلومات بل اصبح تعاون الاهالي مع الجهات المختصة امر جيد.

الابطال في القوات الامنية ايضا اصبحوا بقدرات جيدة ويتعاملون مع ذلك بجدية وذكاء.

ـ برأيك كم اعداد المنضمين الى تنظيم داعش من الاجانب، وهل ما زالوا داخل العراق؟

منذ انتهاء معركة الموصل يصعب التكهن بعدد عناصر داعش الأجانب، أما العراقيين فهنا دخلنا بمعادلة ذات عناصر معقدة، لكن بشكل عام هناك دلائل ومؤشرات تدل على المناطق التي يتواجد فيها عناصر التنظيم الذي تم تحجيمه، المطلوب القضاء على مغذياته.

مبالغون جدا من يعتقدون ان داعش يقيم دولة خلافة عالمية، وما خطابات التنظيم الا صناعة اسطورة وهم وعنصر ابهار لبعض العقول، انه الى حد كبير تنظيم سياسي عسكري.

ـ بعد اكثر من دورة انتخابية خاضها العراقيين هل تظن ان الحكومات في الدورات السابقة كانوا ضمن التوجه الصحيح لبناء الدولة؟

تشكيلة الحكومات الماضية ينبغي أن تفكك بنظرية الهندسة العكسية، من أجل استخلاص وفهم الطريقة التي بنيت عليها، يعتقد انها بنيت بطريقة انتجتها قوى سياسية بعقلية امريكية وايرانية تختلف تاريخيا عن تلك العقلية التي بناها الانكليز.

أربعة مفاهيم لا يمكن بدونها فهم جدلية العلاقة بين الجماعات الحاكمة في العراق.

المفهوم الاول: الانتخابات والديمقراطية.

المفهوم الثاني: علاقة رجل الدين بالسياسة.

المفهوم الثالث: الجهاد.

المفهوم الرابع: المدنية.

هذه المفاهيم متناقضة لان اصحابها بعضهم يقصي البعض، كما لا تنطلق هذه المفاهيم من المنطلقات والتطورات القانونية ونظرية التوازنات الدولية. لأنها تصمم بمقاسات تناسب اصحابها وتتلون مع المصالح. كما لا يوجد ثوابت تسير عليها هذه الجماعات.

ـ هل ترى للنقابات في العراق دورا في وضع السياسة العامة للبلد؟

العمل النقابي يشكل هاجساً مخيفاً للحكومات، لأنه يمثل شرائح اجتماعية واسعة وبالتالي فان هذه الشرائح لها حقوق، واصبح العمل النقابي منخرط بقوة في تخطيط السياسات العامة، والايجابي ايضا ان النقابات على ما فيها من عجز الا انها لم تخضع لسلطة الحكومات في كثير من الاحيان بل اصبحت منظومات واسعة النطاق يقف خلفها جمهور واسع باستطاعته تغيير المعادلات.

ـ بدا واضحا انعكاس الوضع المحلي على الصراع الدائر بين الاحزاب والمؤسسات ما رأيك بذلك؟

لم تتأسس المجتمعات المتعصبة على اسس سياسية عصرية فالصراعات بين الاحزاب والمؤسسات تلعب بتماهي بين البُنية السياسية والاجتماعية مما يحول هذه المجتمعات الى قوى تلعب دورا سياسيا بشكل منفلت.

وبالتالي تصبح الدولة غير مستقلة بمؤسساتها بل تصبح امتداد لهذه الجماعات، فان كلفة الصراعات باهضه الثمن.

وفي هذه المحنة نجد منظمات وشخصيات تستثمر في هذه العصبيات من اجل الاستقطاب لقواعدها.

الرغبة الجامحة لدى هذه المنظمات والشخصيات سببت بزج الجماعات المتعصبة في العمل السياسي وبالتالي انحرفت الدولة عن مسارها الطبيعي.

المجتمع المدني بدأ يتأثر بمقولة انه نقيض في توجهاته للدولة، في وقت ان الدولة احوج الى هذا المجتمع لكونه داعما رئيسا في نشوء حقل سياسي حديث.

ـ سنوات من الحرب كيف تراها بعد استقرارا امنيا تشهده البلاد نسبيا؟

شاهدت عندما دخلت القوات الامريكية عن طريق الانزال الجوي في مناطق جنوب غرب بغداد عام ٢٠٠٣ واجهت معركة مع قوات الحرس الجمهوري في المناطق المحاذية لنهر الفرات، وتعتبر هذه المنطقة الاستراتيجية لدخول بغداد وحينها اتذكر معركة المطار بتفاصيلها، كانت سماء بغداد أشبه بحرب النجوم سماء مشتعلة، وارض ملتهبة، ومن شدة المعركة استخدمت مدافع ٥٧ في المواجهات على الارض علما ان هذا النوع يستخدم للدفاعات الجوية.

بعيدا عن مشاهد العنف والدمار التي سادت المدن، اتذكر كيف كانت المجاميع المسلحة كيف تنسق عملياتها تحت مسمى المقاومة، فكان ابناء هذه المدن على اختلاف طوائفهم كيف يتعاملون مع هذه المجاميع بسذاجة وبساطة، فكان المقاتلون يقنصون ويلغمون الشوارع في الليل ويفجرونها في النهار على الجنود الامريكان.

فكانوا يسهرون ويخططون ويثقفون بالأوساط الشعبية بطريقة جهادية، واتذكر كيف امتلكت كاميرا ديجيتال صغيرة عام ٢٠٠٣ وكانت في وقتها مميزة ومثيرة، كان احد المقاتلين اراد استعارتها بكل طريقة من دون ان اعرف التفاصيل، كما لم اكن اعلم به كان مقاتلا، لكن بعد اصراره على استعارتها اخبرني انه يحتاجها في عملية توثيق لمقابر للجنود الامريكان الذين قتلوا سواء بالحرب او المواجهات.

لكني رفضت لجهلي بأهمية الموضوع، لكنه كان مراده ان يفضح عمل هذه القوات للرأي العام.

وفي احدى المداهمات للقوات الامريكية لمدينتنا تعرصنا لحملة تفتيش واسعة داخل المنازل، اصبحت المناطق ملتهبة ووقع الاهالي بين نيران المقاتلين والامريكان، حتى باتت مشاهد القتل اليومي مألوفة جدا ويسهر الجميع لتداول الحديث بشكل يومي.

المضايقات والحصار والاقتتال فرض علينا ان نقنع الامريكان ان الاهالي يتضررون بشكل لا يطاق وعليكم الخروج من المدن والاسواق، اما المقاتلين فقسم كبير منهم لم يعرفوا من هذه المدن وغرباء لانهم كانوا يتنقلون من اجل تنفيذ عمليات عسكرية عن طريق علاقات مبنية بين ابناء مدينة واخرى.

الخطأ الكبير الذي وقعت فيه المجاميع المسلحة جعلت من الجميع ان يصبحوا اعداء لها واقصد من الشرطة المحلية والشيعة والموظف الحكومي، وبعدها تطور الامر بعد ان كشف تنظيم القاعدة بفروعه المحلية عن انتشاره في هذه المدن، تعقد الامر كثيرا حتى ان اصدقاء الامريكان في النهار كانوا يتحولون الى اعداء في الليل.

مدن صغيرة لم تكن في الحسبان تحولت بين ليلة وضحاها الى مأوى لأكبر الارهابيين في العالم، فما عثر عليه من وثائق وما حدث من عمليات عسكرية لم تستطع وسائل الاعلام ان تصمد وان تدون كثرة الاحداث وخطورتها، فضلا عن صعوبة وصولها للمعلومة.

كانت مناطق جنوب بغداد السباقة في تصدير العنف الى العاصمة والى جنوب العراق، وكلما اطلعت على بيانات العنف ومؤشراته اجد ان هذه المدن تتصدر في قائمة تصدير السيارات المفخخة والعثور على اكداس السلاح والعبوات الناسفة.

اما الحديث عن مصادر المعلومات التي تعتبر المورد الكبير للقوات الامنية العراقية في التصدي للعنف فان هذا كان التحدي الاكبر لان صعوبة الوصول على اعتبارها مناطق ملغومة بمجاميع مسلحة لا تؤمن بالعملية السياسية فأنها اصبحت مناطق مغلقة ويصعب التعامل معها وبقيت عصية حتى وقت قريب، واعتقد انها ستبقى مصدر تهديد ما لم تؤمن بالعمل السياسي بعيدا عن العنف.

ـ هل تجد ان الحقوق والحريات في العراق مسلوبة الارادة امام بعض المتنفذين؟

كتبت قبل ايام محذرا من اعداء الحرية واليوم يقع ضحايا اخرين من النشطاء بسبب سكوت شريحة كبيرة من المثقفين والصحفيين والمنظمات عندما يقع ناشط معين ضحية من اجل الدفاع عن قضية رأي عام ويُخذل من قبل هذه الشرائح مما زاد الطين بلة تجاوزات اصحاب النفوذ بحق الناشطين المدنيين وتناسيهم ما أخفقوا به من تقديم الخدمات للمواطنين وجورهم وظلمهم لشعب ارهقته سياستهم الرعناء، وعندما يخرج لاسترداد الحق ترتكب التهم بحقه.

ـ بخصوص كتابك عن التنظيمات الارهابية الى اين وصلت به؟

كتبتُ عن التنظيمات الارهابية كتاب مكون من ٥٠٠ صفحة أو أكثر خلال عقد من الزمن دونت فيه المشاهد المروعة التي شاهدتها بنفسي وعشت معها كوني سكنت في أكثر من مكان في مدن حزام بغداد، وكلما اقبلت على طباعته اتردد في كونه بحاجة الى توثيق وبحاجة الى دقة في المعلومات، لأنه يتضمن وقائع وأحداث يقف خلفها ابناء هذه المدن الذين عرفوا بمواقفهم من التنظيمات الارهابية خلال الأعوام التي تلت سقوط النظام عام ٢٠٠٣.

وكلما يحرقني الشوق لهذه المدن وللذكريات وللاحبة الذين سقطوا هناك اتشوق أكثر لطباعته وترجمته، وكتبت بعض الحلقات من هذه المشاهدات ونشرت حينها على نطاق واسع في الصحف ومواقع الانترنت وبعضها تم ترجمة مقاطع منها ونشرت ايضا.

وكل ما يمر بنا الوقت تضعنا تجربة العراق السياسية على محك الحاضر وتدوينه ليكون تاريخنا الذي سنخلفه للأجيال اللاحقة، العائق الكبير هو ايماننا العميق بأهمية التدوين وبصدق وموضوعية بعيدا عن التسيس، لأنه يرتبط ارتباطا وثيقاً بمستقبل الوطن وتجاوزه محنة الطائفية والقومية، كما يحتاج تدوين يبتعد فيه القارئ عن التأثر للتاريخ الذي ينبغي تجاوزه من أجل بناء مستقبل مبني على التسامح والعفو، لا ان يكون القول المعروف "القوم أبناء القوم.

أذكر جيدا كيف تأسست الحركات السلفية السنية العنيفة قبل عام ٢٠٠٣، وكيف كانت حركة السيد الصدر التي كانت تنشد الاصلاح وكيف احدثت امواج عاتية وهزات عنيفة بين الوسط الشيعي الحوزوي والاجتماعي، وكيف كانت تعمل بعض الجماعات بشكل عام من خلال نقاشات عقائدية بين الشيعة والشيعة وبين الشيعة والسنة في اماكن خاصة وتحديدا خال الاعوام ١٩٩٩ و٢٠٠٠ و٢٠٠١.

لكن بعد عام ٢٠٠٣ ظهرت جماعات دينية بشكل قوي وأخرى عندما سألت أحد قيادي الحركات الاسلامية عن موقفه حيال عمليات الاغتيالات والتصفية الجسدية قائلا " نضع رجلنا في الحكومة وبعدها يصير خير". مرت الايام وتم استهدافه مع مجموعة من زملائه واحد تلو الاخر، وبعدها تم سيطرة تنظيم القاعدة بشكل كامل على هذه المناطق، ولم نعد حسنها نستطيع ان نشتري رغيف من الخبز بسبب الحصار المطبق الذي بدأ بشكل تدريجي حتى عام ٢٠٠٨.

وخلال هذه الفترة تم انشاء برنامج "الصحوات".

الى الان التدوين لم انتهي منه وربما سيكون أكثر من كتاب لان ما جرى من احداث مروعة كلما اذكرها يصبح في مخيلتي افلام هوليوود وافلام مصاصي الدماء، فاصبح كل شارع له حكاية تطول على الف ليلة وليلة، ومن لم يستفد من هذا الجيل ستندثر حقائق يُندم عليها وتبكيها الاقلام الشريف.

ما يحتاج له الوطن أكبر من نكتب كتابا، يحتاج الى تضامن بين المثقف الشيعي والسني لتدوين كل ما مر من مآسي، لان الجماعات الارهابية استهدفت كل من يعارضها او لم يدعمها.

ـ لماذا لا يوحد الشعب العراقي رأيه تجاه قضايا البلد المصيرية؟

مذهب ثقافي يرى ان الدين الاسلامي بشكل عام عنيف ومتطرف بالفطرة...على المستوى الشيعي، ان اي ثورة داخلية معناها ثورة مشابهة لما حدث في ايران عام ١٩٧٩، أما على المستوى السني فان ذلك يعني صعود قوى سنية ارهابية.

ويرى اصحاب هذا المذهب الثقافي ان الحل يكمن عندما يأتي التغيير نحو الديمقراطية من الخارج وليس من الداخل مثل ما حدث تماما في حرب العراق، فكيف سيعمل المسلمون أمام هذا النوع من الاستعمار وتشكيل نظام سياسي مقبول داخلياً. انتهى/ ع

اضف تعليق