نشرت مجلة ناشونال إنترست  مقالا لخبير في الشؤون الدفاعية تناول فيه بالتحليل والتعليق إستراتيجية الردع التي تعتمد على ما يعرف في المصطلح العسكري باسم الثالوث النووي، ويعني القاذفات الإستراتيجية والصواريخ الباليستية والغواصات النووية.

واستعرض بيتر هويسي مدير شركة جيوستراتيجيك أنالايسيز (Geo-Strategic Analysis) للاستشارات الدفاعية في مقاله بالمجلة ما أورده العالم الفيزيائي الأميركي فرانك فون هيبيل في تحليله المنشور بنشرة أتوميك ساينتستس(Bulletin of the Atomic Scientists) والذي اقترح فيه أن "تتخلص الولايات المتحدة من صواريخها الباليستية العابرة للقارات آي سي بي إم إس (ICBMs).

ولفت هويسي إلى، أن "الترسانة الأميركية للصواريخ الباليستية العابرة للقارات تضم نحو 64% من إجمالي ناقلات الأسلحة النووية الإستراتيجية المسموح بها بموجب معاهدة تخفيض الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والمعروفة اختصارا باسم معاهدة ستارت الجديدة (New START)، وقرابة 60% من الرؤوس النووية في حالة تأهب.

فأي أساس منطقي أقام عليه فون هيبيل أطروحته تلك؟ يتساءل بيتر هويسي، ويجيب، بأن "العالم الفيزيائي الذي يعمل أستاذا ومديرا مشاركا لبرنامج العلوم والأمن العالمي في جامعة برينستون- يقدم ادعاء زائفا حين يقول، إن "إستراتيجية الردع الأميركي تعتمد على إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والمزعزعة للاستقرار بناء على سياسة الاستخدام عند تلقي إنذار".

وكما أوضح رؤساء سابقون للقيادة الإستراتيجية الأميركية، فإن "الولايات المتحدة لن تقدم على إطلاق أي صواريخ باليستية حتى تحصل على تأكيدات مزدوجة أن البلاد تتعرض لهجوم، ولم تكن هناك سياسة تقوم على إطلاق الصواريخ عند تلقي إنذار بذلك، ولا يزال هذا الوضع قائما حتى اليوم.

وفي الواقع، هناك العديد من الإجراءات الفنية والضوابط الوقائية الصارمة المتبعة لتجنب أي عمليات إطلاق عرضية أو غير مصرح بها وضمان أعلى درجات السلامة والأمان والموثوقية والقيادة والسيطرة على الأسلحة النووية.

ويبين هويسي في مقاله أن "الولايات المتحدة لا تحشد أسلحتها الإستراتيجية في أوقات السلم ضد أهداف معادية محتملة، فالصواريخ الباليستية العابرة للقارات تستهدف مناطق المحيطات الواسعة، أما الصواريخ المحمولة على متن غواصات الصواريخ الباليستية الأميركية فهي موجهة ضد أهداف مماثلة للصواريخ العابرة للقارات في عرض البحار".

ولما لم تكن قاذفات القنابل في زمن السلم موضوعة في حالة تأهب منذ العام 1991 فإنها لم تكن موجهة صوب أهداف نووية، وإلى جانب ذلك فإن السياسة الأميركية لا تعتمد على إطلاق الصواريخ عند تلقي إنذار.

وأوضح، إن "الصواريخ الأميركية موضوعة في حالة استنفار قصوى هو محض توصيف معيب، إنما هي مصممة بحيث تبقى دوما في حال انتظار، على حد تعبير مقال ناشونال إنترست.

وحتى لو فكرت الولايات المتحدة في إطلاق صاروخ باليستي فإنها ستعتمد على أقمارها الصناعية في رصد أي هجوم صاروخي تشنه قوة معادية قبل الرد عليه.

ثم إن على أجهزة الرادار التأكد هي الأخرى من مسار الصاروخ المنطلق نحو أهداف أميركية، وعندها فقط سيعقد العديد من القادة العسكريين والمدنيين ما دُرج على تسميته مؤتمر إطلاق و/أو تهديد لتحديد طبيعة الهجوم وما ينطوي عليه من تهديد.

ويزعم بيتر هويسي في مقاله أنه ما من مؤتمر من هذا القبيل عقد من قبل على الإطلاق طوال الحقبة النووية الممتدة زهاء 75 سنة، والأهم من ذلك يضيف الكاتب، أنه "ما من رئيس أميركي استشير رسميا بشأن إطلاق سلاح نووي.

لكن ماذا عن ادعاءات فون هيبيل عن احتمال، أن "يتسبب إنذار كاذب في رد انتقامي عن طريق الخطأ على هجوم مزعوم؟

صحيح أن هناك تقريرا أصدرته لجنة الخدمات العسكرية في مجلس الشيوخ الأميركي في عام 1980 بشأن إنذارين كاذبين عن هجوم بصواريخ باليستية.

وخلص ذلك التقرير إلى، أنه "لم يكن هناك خطر في أن تطلق الولايات المتحدة صاروخا بشكل غير متعمد، أو عرضا أو عن طريق الخطأ، وتوصل المسؤولون الأميركيون إلى هذه النتيجة بعد أن تحققوا من تفاصيل الإنذارين اللذين تضمنا تحذيرا من الاتحاد السوفياتي الذي أطلق من البحر صاروخا باليستيا وآخر من البر في عامي 1979 و1980.

ويتساءل هويسي مرة أخرى، هل بمقدور أميركا حل هذه المعضلة بالتخلص من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؟ ويجيب بالاستشهاد بما أورده فون هيبيل بأن وزير الدفاع الأميركي الأسبق وليام بيري كان قد دعا إلى إنهاء كافة برامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بما فيها التخلص من ترسانة مينيتمان (Minuteman) النووية الحالية.

وقد أثبتت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قيمتها الحقيقية.

و أكد الرئيس الأميركي جون كينيدي، أن "مبادرة بلاده بوضع ترسانتها من صواريخ مينيتمان النووية العابرة للقارات في حالة تأهب في اليوم الذي اكتشفت فيه أن الاتحاد السوفياتي حشد صواريخه النووية في جزيرة كوبا كانت بمثابة الورقة الرابحة التي وضعت حدا لأزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة دون التسبب في اندلاع نزاع مسلح أو وقوع كارثة.

ورغم الأزمات العديدة التي حدثت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أو بين الولايات المتحدة وروسيا فإنه ما من رئيس أميركي أصدر أمرا بإطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات أو صاروخ مماثل من غواصة بحرية منذ أن وضعت تلك الأسلحة في حالة تأهب في أكتوبر/تشرين الأول 1962 والتي امتدت زهاء 70 مليون دقيقة.

على أن مصدر قلق فون هيبيل الأساسي -برأي هويسي- لا يكمن في احتمال أن تتعجل الولايات المتحدة بإطلاق صاروخ باليستي قبل الأوان عند نشوب أزمة ما، بل إن قلقه هذا ذو شقين، فهو يعتقد أنه لا ينبغي أن تتبنى أميركا سياسة تعرض القوات النووية لعدوها للخطر عبر استهدافها، وهو ما يعرف اصطلاحا باسم إستراتيجية القوة المضادة”.

كما أن، فون هيبيل قلق كذلك من أن الأسلحة النووية لا يمكن استخدامها لإنهاء نزاع ما أو للخروج منتصرا منه".

وكلتا وجهتي النظر تتطلب أن تعتقد الولايات المتحدة أن الروس والصينيين -من بين كل القوى النووية التي تناصبها العداء يشاطرونها نفس الرؤية في ما يتعلق بحياة البشر واستخدام السلاح النووي.

وتستدعي فرضية ردع روسيا والصين ببساطة أن تكون لدى الولايات المتحدة القدرة على نسف المدن الروسية والصينية.

وتقوم الفرضية التي يضعها فون هيبيل على أنه لا ينبغي أن تتعرض قدرات الآخرين العسكرية للخطر من إستراتيجية السلاح النووي الأميركي، ذلك أنه يفترض أن أعداء أميركا يولون شعوبهم الاهتمام والتقدير أكثر من أسلحتهم.

غير أن الروس والصينيين بحسب بيتر هويسي ينظرون إلى السلاح النووي على أنه وسيلتهم لحمل الولايات المتحدة على التراجع عند اندلاع أي أزمة، مما يتيح لعدوانهم النجاح.

ويمضي هويسي في تعليقه إلى، أن "تحليل فون هيبيل تشوبه أوجه قصور حادة، فهو يفترض أن أي هجوم محتمل من جانب الروس على سبيل المثال لن يعدو أن يكون هجوما نوويا شاملا على الولايات المتحدة يسعون من ورائه لنزع جيشها الموجود على الأراضي الأميركية من سلاحه بشكل استباقي".

وبموجب ذلك السيناريو فإن أي رد انتقامي من جانب الولايات المتحدة بعد تلقيها إنذارا بالهجوم عليها قد يطال مستودعات وموانئ ومطارات خالية.

ومن وجهة نظر فون هيبيل، فإن "تعريض الجيش الروسي للخطر من شأنه أن يمنح روسيا حافزا لكي تسارع هي الأخرى بشن هجوم نووي في أي أزمة، مما سيتسبب في زعزعة الاستقرار على نحو خطير".

باختصار، إذا شنت روسيا هجوما شاملا على الولايات المتحدة فإن لدى الأخيرة من قوة الرد الانتقامي الآمن ما يمكنها من القضاء على ما تبقى من القوة العسكرية الروسية وإفنائها من الوجود، وفق تعبير بيتر هويسي.

اضف تعليق