نشر موقع "جيوبوليتيكال فيوتشرز" مقالًا لـ جورج فريدمان، مؤسس الموقع الأمريكي والمتخصص في تحليل الشؤون الدولية، قدَّم فيه قراءة للأهمية التي تُمثِّلَها بيلاروسيا لروسيا باعتبارها منطقة عازلة بين موسكو والغرب، مؤكدًا أن بيلاروسيا يمكن أن تسهم في الإخلال بموازين القوى، وأن إشادة الرئيس البيلاروسي بالجهود التي تبذلها أجهزة أمن الدولة في بلاده تبعث رسالة طمأنينة إلى موسكو مفادها أن الوضع تحت السيطرة وتحذِّر الغرب بعدم التدخل في المنطقة.

يقول فريدمان في مستهل مقاله أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أشاد في 15 ديسمبر (كانون الأول) بجهاز الاستخبارات والأمن في بلاده، خلال حفل أُقيم بمناسبة مرور 100 عام على إنشاء أجهزة أمن الدولة. وأبقى لوكاشينكو، الذي قاد بيلاروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تقارب البلاد باعتبارها جمهورية على النمط السوفيتي قدر الإمكان. (حتى أنه سمح لجهاز أمن الدولة بالاحتفاظ باسمه السوفيتي). وعلى الرغم من معظم التوقُّعات، حافظ رئيس بيلاروسيا الوحيد في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على استقرار البلاد.

ويرى الكاتب أن ما تفعله بيلاروسيا أو لا تفعله لا يُشكِّل أهمية كبيرة في الغالب، ولكن استقرارها يكتسي أهمية بالغة فيما يتعلق بالعلاقات بين روسيا والغرب. واعتبارًا من حقبة القياصرة حتى يومنا هذا، عوَّلت روسيا على كثير من الدول التي تقع في غربها لتكون بمثابة منطقة عازلة بينها وبين غيرها من القوى الأوروبية. وتكوَّنت هذه المنطقة العازلة من دول البلطيق الثلاث وأوكرانيا وبيلاروسيا، التي تقع بينها. وأسهمت المنطقة العازلة في زيادة المسافات التي كان الغزاة يضطرون إلى قطعها حتى يتمكنوا من الاستيلاء على موسكو أو نَقْل الموارد الزراعية والصناعية والعسكرية إلى منطقة الجنوب. كما مكَّنت المنطقة العازلة الروس من صد الغزوات التي يشنها أعداؤها الذين يتمتعون بالتفوّق التنظيمي والتِقَني. ويزخَر التاريخ الحديث بمثل هذه الغزوات.

ولا ينظر الروس إلى التهديد الذي يُمثِّله الغزو نظرة افتراضية فقط؛ ذلك أنَّه يحدث مرارًا وتكرارًا بصورة تكفي كي يكون الاستعداد له هو محور الإستراتيجية الوطنية الروسية. وتظهر أهمية المنطقة العازلة عندما يتمكَّن الروس من استيعاب مهاجميهم وإرهاقهم وهزيمتهم في نهاية المطاف.

 

وفي عام 2004، بعد انتهاء الحرب الباردة، انفصل جزء من المنطقة العازلة عندما انضمت دول البلطيق إلى حلف الناتو. وتقلَّصت المسافة التي تفصل بين قوات حلف الناتو ومدينة سانت بطرسبرج (عاصمة روسيا سابقًا) من ما يُقارِب ألف ميل إلى أقل من مائة ميل. وفي أواخر ذلك العام، ثار الأوكرانيون ضد حكومتهم الموالية لروسيا في الثورة البرتقالية (التي اندلعت في أعقاب جولة الانتخابات الرئاسية الأوكرانية)، وهو ما نظرت إليه موسكو باعتباره محاولة غربية لإدماج أوكرانيا في حلف الناتو.

ويلمح الكاتب إلى أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الغزو بكل المقاييس. وتَمثَّل رد روسيا في الصراع الخفي المُمْتَد من أجل السيطرة على أوكرانيا، وبلغ هذا الصراع ذروته في عام 2014 أثناء اندلاع احتجاجات الميدان الأوروبي والحرب الأهلية (عندما علَّقت الحكومة الأوكرانية تحضيرات توقيع اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وطالب المُحتجُّون باستقالة الحكومة وعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وإجراء انتخابات مُبكِّرة).

ويؤكد التقرير أن بيلاروسيا يمكن أن تخل التوازن بأكمله. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت بيلاروسيا تعادي الغرب بصورة عامة وتتَّخِذ موقفًا حَذِرًا تجاه روسيا. وكان لوكاشينكو قد ترأس نظامًا قمعيًا للغاية سمح له أن يسحق كل القوات التي قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، ومن ثمَّ أدى لوكاشينكو دورًا جغرافيًا وسياسيًا حاسمًا. وفي الوقت الذي انحازت فيه دول البلطيق إلى حلف الناتو وكان فيه مستقبل أوكرانيا غامضًا، حافظ لوكاشينكو على المنطقة العازلة، وعرقَل ما عُرِف تاريخيًا بأنَّه الخط الرئيس للهجوم من الغرب على موسكو.

ولطالما كان هذا الأمر مصدرًا من مصادر الراحة الهشَّة للروس. وجسَّد لوكاشينكو النظام، ولا تُعد قوة رجل واحد أفضل وسيلة لتعليق الإستراتيجيات الوطنية عليه. أضف إلى ذلك أن الغرب، من وجهة نظر روسيا، قد بحث في إمكانية الإطاحة بـ لوكاشينكو واستبدال نظامه بنظام موالٍ للغرب. وعلى الرغم من أن لوكاشينكو أحبط هذه المحاولات إلا أن روسيا لا زالت تشعر بالقلق؛ إذ أجرت خلال هذا العام مناورة عسكرية كبيرة في بيلاروسيا سعت فيها إلى إظهار قدرتها على غزو بيلاروسيا والسيطرة عليها في أي لحظة.

وينوِّه التقرير إلى أن الغرب ينظر إلى فكرة غزو حلف الناتو لروسيا باعتبارها فكرة منافية للعقل، ذلك أن الحلف ليس لديه النية أو القدرة على الاضطلاع بهذا الدور. غير أنَّ روسيا تعرف كيف تتغيَّر هذه الأشياء بسرعة. وفي عام 1932، كانت ألمانيا تُسمَّى جمهورية فايمار، وهي جمهورية ضعيفة وغير قادرة على أن تُمثِّل تهديدًا. وبحلول عام 1938، تحوَّلت ألمانيا إلى النازية، وكانت تمتلك أكثر الجيوش كفاءة وإقدامًا في أوروبا، ما مكَّنها من غزو روسيا بعد ثلاث سنوات.

وإذا أصبحت بيلاروسيا، وفقًا للسيناريو المتطرف، جزءًا من الناتو، ستكون موسكو على بُعد 200 ميل فقط من التمركز الأمامي للقوات المعادية. وستصبح مدينة سمولينسك الروسية، التي كانت في قلب الاتحاد السوفيتي، مدينة حدودية فعليًا. ومن ثمَّ، سينهار هيكل روسيا الجغرافي السياسي، الذي ضعُف بالفعل بسبب استيعاب حلف الناتو لدول البلطيق وحالة عدم الاستقرار في أوكرانيا، من الأساس. وستُفقَد المنطقة العازلة.

ويمكن أن تعيش روسيا مع أوكرانيا الحيادية وبيلاروسيا الحيادية ودول البلطيق الموالية للغرب، بل يمكن أن تعيش حتى مع أوكرانيا ذات الميول الغربية التي لم يُسلِّحها الغرب تسليحها جيدًا. ولكن إذا سقطت بيلاروسيا، سيسفر ذلك عن رد فعل روسي، وفي البداية سيكون الرد سياسيًا، ثم عسكريًا.

ويختم الكاتب تقريره بالإشارة إلى أنه من غير الواضح ما إذا كانت القوات الروسية، التي تعاني من ضغوطات كبيرة بالفعل، قادرة على تنفيذ عملية مُعقَّدة في بيلاروسيا، وأداء هذا الدور بالقدر المناسب من القوة، ولكنَّها ستضطر إلى محاولة فعل ذلك. ولذلك، تُعد بيلاروسيا النقطة الحاسمة. وتُمثِّل إشادة لوكاشينكو بالقرارات التي يتخذها جهاز أمن الدولة في روسيا تأكيدًا للروس بأن الوضع تحت السيطرة وتحذيرًا للغرب بعدم التدخل في المنطقة.

اضف تعليق