على خلاف مشهد تساقط الأحذية ورمي قوارير المياه، من جانب 40 ألف متفرج احتشدوا في مدرجات استاد محمد بن زايد في أبوظبي، بعد كُل هدف سجله لاعبو المنتخب القطري ضد  منتخب الإمارات؛ يبرز مشهد آخر للاعبي منتخب العنابي، كنجوم صغار السن؛ قادرين على اللعب بثقة وصلت حد الاستعراض في المراحل الأخيرة من المباراة، وسط ظروف من الشحن النفسي والخوف، وأدت في النهاية إلى الفوز التاريخي بكأس آسيا لكرة القدم.

بدت الصورة الذهنية لأداء اللاعب القطري، سواء من أصول قطرية، أو غيرها من جانب الدولة الخليجية مُغايرًا تمامًا عما كانت عليه الصورة في بداية الألفينات التي تسارعت فيها وتيرة التجنيس لنجوم أوروبيين كبار للعب لصفوف المنتخب بمبالغ خيالية دون انعكاس ذلك على نتائج المنتخب.

يرسم التقرير التالي صورة شاملة عن التجربة القطرية في صناعة منتخب قوامه من شباب في بداية العشرينات، وعن الفوارق الأساسية بين المنتخب الحالي والمنتخب السابق الذي كان قوامه نجومًا أوروبين كبارًا، نجحت قطر في تجنيسهم مقابل أموال وفيرة.

"أسباير".. منتخب صُنع في قطر 

في أوائل الألفينات، وبالتزامن مع خفوت وتراجع حاد في أداء للمنتخب القطري لكرة القدم بكافة البطولات القارية؛ بدأت  الدوحة خطوات أكثر عملية نحو إعادة تأهيل للأنشطة الرياضية داخل البلد محدود السكان، وتحضير أبطال رياضيين عالميًا من أعمار سنية صغيرة، عبر تأسيس أكاديمية رياضية رائدة، نالت اسم "أسباير"، بميزانية مفتوحة، تكون مهمتها إعداد بطل رياضي قطري واعد في كافة الرياضات.

حسب الموقع الرسمي للأكاديمية، فقد تأسست أكاديمية أسباير في 2004 لتقديم التدريب الرياضي والتعليم للطلاب الموهوبين رياضيًا في قطر. وتقدم هذه الفرصة في بيئة تعليمية ورياضية متميزة لتحضير أبطال الغد القطريين للتألق الرياضي عالميًا.

على خلاف السياسة السابقة لقطر في استخدام الأموال كوسيلة وحيدة في تجنيس نجوم كبار للعب للمنتخب مقابل أجور مرتفعة؛ لجأت الاكاديمية إلى استراتيجية جديدة معنية بشكل رئيسي بالبحث عن المواهب الصغيرة الواعدة في البلد محدود السكان، ممن درسوا في مدارسها، لتأهيلهم فنيًا ونفسيًا ومعنويًا.

كان العنوان الرئيس لنجاح هذه التجربة الواعدة هو إيفان برافو المدير السابق للاستراتيجيات داخل نادي ريال مدريد؛ والذي وقع عليه الاختيار من جانب الاتحاد القطري رئيسًا للأكاديمية الرياضية القطرية؛ لتوكل له مُهمة اختيار شباب واعد صغير السن، مُقيم في قطر من سنواته الأول، ومُهيأ نفسيًا ومعنويًا على التعامل مع ضغوط المباريات.

"هل المال هو الحل لكل شيء؟ لا. ولكن من الأفضل أن تكون لديك الموارد لتخطي بعض الصعوبات"، كانت هذه الجملة السابقة التي وردت في مقابلة صحفية لإيفان برافو هي الاستراتيجية التي بنى عليها المدرب الدولى خطته لإعداد لاعبين شباب تتراوح أعمارهم بين 14 إلى 18، يعيش أغلبهم في قطر منذ سنوات الطفولة.

لم تأخذ التجربة وقتًا طويلًا من جانب إيفان؛ حتى بدأت نتائج خطته المختلفة تؤتي ثمارها؛ ليكتشف جمهور كرة القدم فريق شاب عربي مُجنس، أعمارهم في بداية العشرينات، وجُلهم من مواليد الدولة الخليجية، وخريجي أكاديمية أسباير، يُشكلون قوام المنتخب القطري الأوليمبي، والذي كان أول حضور له في بطولة كأس آسيا للشباب تحت سن 19 سنة في ميانمار، والتي ظهر لاعبوه فيها بمستوى لافت للأنظار، جعلته يحصد اللقب.

"المُعز وأكرم".. من شوارع الدوحة للاحتراف

لعل تتبع مسيرة أحد نجوم المنتخب وهو اللاعب المُعز علي، والتعرف على مسارات تطور مستواه على مدار السنوات الماضية، وسيلة مُهمة لمعرفة الكيفية التي عمدت من خلالها قطر لإعداد هذا الجيل الواعد، وتطبيق عملى لمقولة المدرب الإسباني أن المال لن يكون حلاً لكُل شيء.

كحال آلاف الأسر العربية التي استوطنت دولة قطر، انتقل والد ووالدة المُعز للدولة الخليجية من موطنهم الأصلي السودان، بحثًا عن فرصة عمل، وظروف أفضل لتنشئة أبنائهم؛ لينشأ المعز، المولود يوم 19 أغسطس (آب) 1996، داخل الدولة الخليجية، وتستهويه مُمارسة كرة القدم في الملاعب القطرية؛ حتى وجدت أكاديمية أسباير في اللاعب الشاب النموذج الذي تبحث عنه كمشروع نجم واعد.

دخل المُعز الأكاديمية كأي ناشيء فيها وهاوٍ لكرة القدم؛ خاضعًا لبرنامج تدريبي ونفسي مُكثف من جانب المدرب الإسباني تؤهله بعد تخرجه من الأكاديمية في دفعة عام 2014، للعب بشكل احترافي ضمن صفوف المنتخب القطري؛ حتى جاءته الفرصة في بطولة كأس آسيا للشباب التي أقيمت عام 2014 في ميانمار؛ ليصير أحد نجوم المنتخب بعد أداء مُذهل، ظهرت فيه موهبته الهجومية التي بزغت بتسجيل ثلاثة أهداف في البطولة التي فازت قطر بلقبها.

كانت الأكاديمية نقطة التحول الكُبرى في حياة اللاعب السوداني الأصل؛ والمنعطف الرئيس في حياة المعز؛ إذ شكلت الفترة التدريبية والمعيشية عاملاً مؤثراً على مسيرته الكروية؛ والتي أهلتها بعد ذلك الأكاديمية بإتاحة فرصة اللعب لأحد الأندية المملوكة للأكاديمية، وهو نادي كولتورال ليونيسا الإسباني؛ ليعود من جديد بعد نضوجه كرويًا، للعب لصفوف نادي الدحيل (لخويا سابقًا) محرزًا معه لقب الدوري مرتين.

بعد ذلك؛ سيكون المُعز على موعد مع المجد من جديد مع الفريق الأول للعنابي؛ حين يستقر المُدير الفني على ضمه لصفوف المُنتخب الأول المُشارك في كأس أمم آسيا التي انعقدت في الإمارات؛ ويُعادل اللاعب القطري الرقم القياسي في عدد الأهداف التي يسجلها لاعبٌ في بطولة آسيوية واحدة، بعدما أحرز هدفه الشخصي الـتاسع في كأس آسيا 2019، ليحصد لقب أفضل لاعب في البطولة.

"جواز سفر مهمات" هو أحد الوسائل التي أتاحتها قطر للاعبيها من أصول غير قطرية للعب في منتخبها كحال أغلب لاعبي المنتخب الحالي المُشارك في كأس أمم آسيا، وفقًا لأحد المصادر والذي شرح ذلك؛ تقوم قطر بمنح اللاعب المجنس جواز سفر يطلق عليه "جواز سفر المهمات"، وهو جواز سفر مؤقت يتم سحبه من اللاعب بعد انتهاء مهمته الرياضية؛ يستلمه في المطار؛ كسياسة لتخفيض عدد المُجنسيين. ويضيف المصدر: "التجنيس يصير في مرحلة لاحقة؛ وهو في أغلب الظنون سيكون في حالة لاعبي المنتخب الحالي بعد عودتهم كمُكأفاة لهم على الأداء البطولي في المنتخب".

لاعب آخر ناشئ من خريجي الأكاديمية سيكون نجمًا واعدًا في صفوف المنتخب القطري هو أكرم عفيفي، المولود في قطر، لأسرة كروية من أصول يمنية استقرت في الدوحة منذ سنوات طويلة؛ فوالده لاعب كرة قدم سابق، قرر أن يلحق نجله في سنواته الأولى بالأكاديمية الرياضية؛ آملًا في أن يكون مشروع نجم رياضي واعد.

تحققت آمال الأب بقبول نجله في صفوف الأكاديمية؛ التي أنفقت الملايين على تطوير مهاراته، وتشكيل شخصيته؛ قبل أن تستثمر كُل هذه الأموال في نجومية استثنائية بزغت في أولى مباريات صاحب الواحد وعشرين عامًا مع إيوبين البلجيكي أحد الأندية المملوكة للأكاديمية، لينتقل بعد ذلك لصفوف نادي السد القطري.

 بزوغ نجومية ومهارة اللاعب الشاب جذبت له أنظار الأندية الأوروبية؛ لينجح نادي فياريال الإسباني في ضمه لصفوفه؛ ويصير بذلك أول قطري وخليجي يلعب بالدوري الإسباني الممتاز. بعد سنوات يتنقل فيها اللاعب الشاب بين أندية أوروبية؛ يلعب ضمن صفوف المنتخب العنابي في كأس أمم آسيا؛ ويصير من بين أبرز نجومه في البطولة المنصرمة؛ ينتظره مجد جديد.

ولعل التصريح الرسمي الذي صدر من جانب حاكم قطر الأمير تميم بن حمد: "نحن فخورون بمنتخب قطر الذي أدى مستويات جيدة جدًا وهو فريق شاب نُعِدُّه للمستقبل.. وغالبية لاعبيه من خريجي أكاديمية أسباير وهي أكاديمية التفوق الرياضي… ونتمنى لهم التوفيق اليوم"، مؤشرًا على محورية الدور الذي لعبته الأكاديمية في إعداد هذا الجيل الواعد؛ والمدعوم من أعلى المستويات السياسية.

حين فشل التجنيس مع قطر في أوائل الألفينات

قبل تأسيس الأكاديمية، كانت إدارة الرياضة خاضعة للأموال؛ باعتبارها وسيلة رئيسية من أجل الترويج للقطاع من وجهة نظر السلطات الحاكمة، دون النظر في استراتيجية طويلة الآجل، أو مشروع إعداد بطل رياضي. كان الهم الأكبر هو شراء نجوم عالميين، بعدما يتقدم العُمر بهم، للعب في الدوري القطري بملايين الدولارات، واستخدامهم في الملاعب القطرية لجذب الجمهور لمتابعة مباريات الدوري القطري، وإغرائهم تحت قوة تأثير المال للتجنيس، ومن ثم اللعب باسم المنتخب.

جعلت هذه السياسية القطرية آنذاك من الدوحة ملاذًا لألمع نجوم الكرة العالمية، كمحطة أخيرة قبل الاعتزال، يسعون من وراءها لتعظيم أرباحهم التجارية والمالية، بعدما حققوا البطولات والمجد الكروي مع فرقهم الرئيسة في أوروبا، بينما تستثمر الدولة الخليجية هؤلاء، سواء من خلال اللعب في الأندية القطري، أو المنتخب القطري بعد تجنيسهم، بحثًا عن الصيت فقط في القارة الآسيوية.

كان أبرز هؤلاء النجوم لاعب فريق ليون السابق ليساندرو لوبيز الذي وقع مع الغرافة القطري لعامين، وغابرييل عمر باتيستوتا، اللاعب الأرجنتيني الشهير لصالح فريق العربي القطري، والنجم الإسباني راؤول جونزاليس والبرازيلي أدريانو، وعلى الجانب الآخر نيمار، وتاباتا، وأمارا ديانيه، وجونينهو، وكليمرسون، وفيلبي جورج، الذين جذبتهم قطر للعب ضمن صفوف منتخبها بمبالغ خيالية.

غير أن هؤلاء النجوم الوافدين من ملاعب أوروبا لم يستمر بريقهم، كما ظن مسئولو الرياضة في قطر؛ وأدت ظاهرة تجنيس نجوم أوروبا في مراحل متقدمة من أعمارهم لنتائج عكسية؛ ليتراجع أداء المنتخب القطري، وتغيب الجماهير عن مباريات الدوري في المدرجات، خصوصًا في ظل عدم انعكاس نجومية هؤلاء النجوم على الدوري القطري، وسط انتقادات من الصحافة الرياضية في قطر من غياب نجوم شباب واعدة.

ولعل التدقيق في التجربة القصيرة زمنيًا لمدرب منتخب قطر الفرنسي فيليب تروسييه، الذي تولى المهمة رسميًا في عام 2003، كافيًا للتعرف على أسباب فشل طموحاته التي أعلن عنها مع اختياره في بناء فريق قوي مُنافس في البطولات القارية، يتأهل به لمنافسات كأس العالم المُنعقدة في ألمانيا.

فقد بدأت ملامح هذا المشروع المدعوم من الاتحاد القطري آنذاك تتضح بعدما قام المدرب بالتفاوض من أجل تجنيس اللاعبين البرازيليين الثلاثة: إيلتون، وديدي، وشقيقه لياندرو (كليهما مع بوروسيا دورتموند الألماني)؛ بأجور مالية مرتفعة آنذاك بلغت في حالة اللاعب إيلتون مقابل مليون يورو مع أجر سنوي قدره 400 ألف يورو. بدأت ولاية المدرب، ذائع الصيت في أوروبا، وصاحب الإنجازات الكُبري مع الأندية والمنتخبات العالمية، بفشل كبير في التأهل إلى نهائيات كأس آسيا، قبل أن تكتمل خيبة الأمل بفشل تروسييه في كأس الخليج لكرة القدم التي استضافتها الكويت بأداء متواضع.

وتأكد أن هذه السياسة هي جزء من مشروع الاتحاد القطري، وليست رغبة منفردة من المدرب العالمي؛ بعدما صدر بيان من الاتحاد القطري ممثلًا في أمين السر المساعد للاتحاد القطري لكرة القدم ماجد الخليفي، آنذاك: "إن استقدام خيرة اللاعبين العالميين للاحتراف في الدوري القطري وتجنيس لاعبين آخرين يمثلان جزءا من سياسة كروية قطرية مدروسة تهدف بالأساس الى تطوير كرة القدم تماما كما حدث في اليابان وقبلها الولايات المتحدة".

واستكمالًا لرسم ملامح مشروع تروسييه؛ فقد ظن المُدرب الفرنسي أن بناء فريق يُنافس به يرتبط بتجنيس لاعبين أوروبين بمقابل مالي للعب في المنتخب، ظنًا منه أن المال كوسيلة وحيدة لشراء النجوم كافي لصناعة المجد؛ متجاهلًا في ذلك الكثير من العوامل النفسية التي تمثل عنصرا أساسيًا في نجاح مهمته؛ كما وصفها تقرير لموقع قناة الجزيرة القطرية، المملوكة للسلطات القطرية.

لم يستمر المدرب العالمي مع قطر، وصدر بحقه قرار الإقالة قبل عام من نهاية عقد تروسييه الذي كان يمتد لعامين؛ لتُشكل سياسته في اختيار اللاعبين محل نقد واسع، ونقطة تحول من جانب المسؤولين في إعادة النظر في سبل جديدة لتطوير كرة القدم القطرية، والنظر مُجددًا لأهمية كسب ثقة اللاعب القطري والتعامل معه بشكل معنوي مختلف من جانب المُدرب، دون أن يكون المال الوسيلة الوحيدة لكسب ثقته.

المصدر ساسة بوست

اضف تعليق